ارتوى محمد حستي بمياه الفن منذ نعومة أظفاره، حيث وجد في البيئة المحيطة به كل عناصر الإلهام والإبداع، في بساطتها وعفويتها وجمالها الأخاذ؛ ثم اتخذ من البحث الأكاديمي والممارسة الميدانية سبيلا لتطوير موهبته الفطرية، إلى أنْ غدا أحد أعلام الفن التشكيلي المغربي الحاليين، ممن يسهل على المتلقي معرفة أسلوبهم، حتى بدون أن تحمل لوحاتهم أسماءهم، وذلك لبصمتها الخاصة، المستلهمة من الموروث المحلي من غير انغلاق أو تزمت.
التقته «القدس العربي»، فباح لها بكثير من مكنوناته وأحلامه وشجونه:
■ ما الذي قادك إلى عالم الفنون التشكيلية عند بداياتك الأولى؟
□ أعتبر أن وجودي في ميدان الفنون التشكيلية لم يأت من فراغ، ومردّ ذلك إلى البيئة الفنية والطبيعية التي احتضنتني في مسقط رأسي في الأطلس المتوسط، وبالضبط في مدينة صفرو الممتدة في عمق التاريخ، واسمها بالأمازيغية يدل على ذلك («اسفرو» يعني الشعر)، وعلى النبع الفني الذي نهلت منه بعضا من هذا المتن الفني، علاوة على الطابع الحرفي لأهلي في النسيج والخشب والبناء. كما أنني محظوظ جدا لأنني درست في المرحلة الابتدائية على يد المرحوم محمد شكوش، وبعد ذلك تخصصت في دراسة الفنون التشكيلية في فاس. وحالياً أعمل أستاذا للتربية التشكيلية في مدينة الخميسات.
■ وهل للبيئة التي نشأت فيها تأثير على هذا المسار؟ وكيف تحضر هذه البيئة في أعمالك؟
□ بالفعل، أجد أن للبيئة دورا فعالا في التوجيه والمصاحبة وتعزيز الإدراك الحسي، لأنها تبقى دائما المصدر الملهم للعملية الإبداعية، كذلك هو الحال في البيئة الاجتماعية والفكرية، إذا أحسنا التصرف معها بالإصغاء والملاحظة والتحليل واكتساب الحس النقدي، في مواجهة الحس المشترك والثقافة الجمعية ومحاولة تغيير النظرة التقليدية في التفكير وفي معالجة الوقائع البالية بالتحليل العلمي، خاصة في التصوير التشكيلي لما له من أثر على المجتمعات. لا محال أنني استخلصت كل العبر والنتائج المرضية من المحيط الذي نشأت فيه. لعل الأثر العميق الذي طبع منتجي الفني هو العلامة والرمز واللون، إذ أجد نفسي جزءا من بنية مناخ بصري متخم بالرموز والمعاني والأحلام والصور والأشكال والألوان «الأطلسية» ذات الخصوصيات السوسيو – ثقافية والحمولة الرمزية التي تستمد مرجعتيها من المخيال الشعري الأمازيغي ورقصة «أحيدوس» الغنية بسينوغرافيتها التي تؤثث للحركة المقرونة بالحرية والسلم والتعايش. أضف الى ذلك أن «أحيدوس» مسرحية نتقمص فيها دور الأبطال بعد الانتصار. وللتشكيل عندي ارتباط وثيق بذلك من الجانب الرمزي «لأحيدوس» من حيث الحركة والتموجات والبناء وتسلسل وتكامل الوظائف الغرافيكية والسيميائية للعلامة التشكيلية.
كذلك طقوس الوشم التي أثرت في إنتاجي التشكيلي بغنى «ريبرتوارها « الرمزي ذي البعد التجميلي، وآخر لتحديد الانتماء السوسيو مجالي، كما أنه تدوين للموروث الرمزي على الجلد لما له من قدسية وقيمة ثقافية ورمزية تصوغ وتحدد الانتماءات الطبقية والقبلية. كما أنني استلهمت من الوشم الأطلسي حروف «تيفناغ» التي تجدها أساسا وهرما هيكليا لمنتجي التشكيلي. ما هذا إلا تفاعل مع الخيوط والذبذبات التي ترسلها الطبيعة وعبرها المجتمع، هذه الحركية الآخذة في التمدد والتجاذبات الثقافية ما هي، بالنسبة لي، إلا صيغة من إعادة إنتاج عوالم قديمة بمعول التشكيل المعاصر. قد تجدني أسيرا في «الزربية» المغربية كبساط للتفاعل والتناظر مع العلامات والرموز والأيقونات والألوان المتوارثة عبر الأجيال بالنقل والانتشار المتواتر والمتسق بدون ملل وبدون التقيد بالقواعد الخوارزمية ولا الاكتراث بفيزياء الكوانتم.
■ حسناً، في أي خانة تصنف نفسك إبداعيا؟ ولماذا؟
□ ليس من اختصاصي أن أصنف أعمالي أو أن أتدافع مع المختصين في النقد التشكيلي، بل مهمتي العضوية البحث والتجريب ومقارعة المواد والخامات والأشكال والتراكيب والألوان والأحبار… وما ذلك إلا تخصص أتقيد به، محاولا جاهدا بالممارسة والمقارنة والتحليل والتجريب أن أطوره، للمساهمة ولو بقليل في التأثيث للمجال البصري الجمالي الكوني. هذه هي التمثلات والأدوار متعددة الأنساق التي ألعبها بخبرتي في الجمالية.
قد أجازف وأقول إنني اتقاسم مع «الرمزية» بعضا من حقولها، آملا أن يمثل الرمز في أعمالي التشكيلية ذلك الشيء الآخر الذي يستوجب مطابقة نظيره بصيغة العناصر الخوارزمية. بمعنى أن العلامة العينية في العملية الإبداعية تنبه وتشير إلى أشياء غائبة يستحيل إدراكها بسهولة، وإلى هذه المنظومة متواصلة الأطراف والبنى التي تمثل في حد ذاتها عنصرا من منظومة أخرى، يقترن فيها الرمز في أعمالي بوظيفة الاستثارة لبعض حالات الوعي. ولهذا تجد في عمليتي الإبداعية الرمز له مدلول ذو البعد العقلي الذي يناط له دور إثارة الخيالات والأفكار. والأخرى لها طابع انفعالي متمكن من الخبرة الحركية والراصد لمداخل ومخارج الفضاء المتحكم فيها. وهذان النمطان من الرموز المتباعدان يستدعيان الذكاء واكتساب الخيال الرمزي والقدرة على التأليف بين المشاعر والصور والأشكال والانفعالات، وفق قوانين خاصة بالفنان (اللون الوجداني الخاص بالفنان) وبالتشكيل المعاصر. أضف إلى ذلك الاتجاه «الإيمائي» الذي يؤثر في أعمالي بأصالته في الحركة والطاقة القصوى والطبيعية للفرد، وهي بالنسبة لي رسم ووشم مشحون بالطاقة الحيوية التي أتنفس بها الخالص من الحقيقة.
قد أكون مولعا بجاكسون بولوك وفرانس كلين في التجريدية التعبيرية وفازر يلي كاندنسكي وهارتونك في التجريدية الغنائية وسولاج وماتيو ومندريون وجون دوبوفي والشرقاوي والغرباوي وربيع وعيسى إيكن ومحمد القاسمي وغيرهم.
■ أشرتَ إلى أن الحروفيات تحضر في العديد من لوحاتك، فما هي أبعاد هذا الحضور؟
□ الحروفية في صيغتها التشكيلية تمثلات بصرية تقسم الأدوار بين الخط واللون والشكل والمادة في النسق التواصلي المرموز بعيدا عن الكلام والتخاطب. وبين هذه الحدود يتجلى دوره كوسيط بين الروحي والتشكيلي لإبراز العلاقة الجدلية بين دال ومدلول العلامة الحروفية كعنصر وكمفهوم تشكيلي ذي طبيعة يقوم على نظام جوهري مرتبط بالحسي المطبوع بالحدس، ومن جهة أخرى البحث عن التكامل والتفاعل مع الدلالة الذهنية التي تكتسيها.
الظاهر في الحروفية له معان تشكيلية بحتة، والباطن فيها له دلالات روحية. ولهذه الممارسة التشكيلية ارتباطات نظرية وتطبيقية وبالتالي يبرز في أعمالي البعد الفكري والوجداني بمثابة المحرك الأساسي لتطور الحرف والعلامة التي تتحول إلى شكل دينامي مؤثر في بنية الأثر الفني. لذا، فما هو جوهري في البعد الواحد في تطبيقاتي تتمحور في فضاء التركيب وبمستويات متعددة مقرونة بالتضاد والتقابل والتنضيد والترادف، محاولا بهذه الطريقة أن أجرد الحرف من مضمونه اللغوي للاحتفاظ ببعده الروحاني المطلق. إن رمزية الماوراء واللامرئي والباطن والمادي في حروفياتي يضع كل هذا التنافر وهذه التراتبية في الأوان والخطوط والأشكال في صورة المرئي، ما يمكننا من تفكيك عوالم العمل التشكيلي والسعي إلى معرفة المطلق، في بنية صورته التشكيلية. لذا يمكن أن أقوم بتأويل»الحروفيات» بالعلامات الخطية من خلال التأمل واستحضار البعد التحليلي والنقدي والتقصي في مدى صحة هذه الإشكاليات التشكيلية المختلفة والمرتبطة بالصوفي والروحاني. إنني بهذا البحث والتجريب أحاول إبراز مدى التلاقح القائم بين هذه العناصر التشكيلية واستنطاق مضمون العملية الإبداعية وما تحمله في كليتها.
■ بالنظر إلى أهمية تجربتك الإبداعية، هل أنصفها النقد يا تُرى؟
□ لا اعتقد أن النقد التشكيلي والجمالي في المغرب له حس المتابعة والمصاحبة والتوجيه الموضوعي، ما هنالك أن أمره مرتبط بالعلاقات والمصالح الشخصية والمحاباة، وهذا النقص والفراغ المهول في مجال النقد التشكيلي في المغرب مرده إلى غياب كراس علمية فيما يسمى قسرا بالجامعات المغربية. إنني اخجل من غياب تدريس الفن التشكيلي في التعليم العالي، وحتى في التعليم الثانوي التأهيلي أما الإعدادي والابتدائي فوجود التدريس الفني يبقى صوريا ومحط أطماع من يطفئون الشموع والأنوار لبتره من هذه المنظومة التعليمة الهشة. ونحن في زمن أسرع وأصعب يلزمنا بتطوير مواد التفتح إلى أقصى درجة كما يدل عليها مفهومها.
هناك محاولات خجولة في المشهد النقدي تستمد قوتها من إمكانياتها الخاصة وبحثها المتواصل في إغناء الخزانة النقدية، وتحارب كذلك البياضات التي تملأ هذا المتن التشكيلي المغربي.
في ضوء هذه المعطيات الموسومة بالانهزامية والمتجذرة في التفكير الثقافي الجمعي المغربي لن يكون النقد التشكيلي في أحسن حلته العلمية، ولن يعرف تقدما ما لم يخرج من جب الذاتية التي تفقده الموضوعية والجرأة والحصانة العلمية، بعيدا عن كل مزايدات زائلة.
أعتبر ان الساحة التشكيلية المغربية غنية بالتجارب التشكيلية، وربما هذا الزخم من التجارب أصاب النقاد بالتخمة ولم يقدروا ـ على ندرتهم ـ على مسايرة هذه الأمواج من التجارب التشكيلية التي تطل علينا. وهناك بعد آخر يفصل بين المنتج التشكيلي و»الناقد» يتمثل في انتقال «الناقد» من دور المبدع العلمي والثقافي إلى أجير لكتابة جمل على صفحات الجرائد والمجلات والبوابات الافتراضية. لا اعتقد أن هذا صحي للنقد التشكيلي المغربي ما دامت هذه السلوكيات موجودة ومادام غياب مؤسسة علمية تحمل على عاتقها مسؤولية النقد التشكيلي.
■ وكيف تقيّم واقع تدريس الفنون التشكيلية في المغرب؟
□ تشكل الثقافة البصرية عامة والفنون التشكيلية خاصة رأسمالا غير مادي للمغرب، وهي المؤشر الأساس في التنمية الاجتماعية والضامن القوي لإبطال الهدر الذي يطال هذا الرأسمال الرمزي الإنساني؛ غير أن الفنون التشكيلية تمرّ حاليا من عنق الزجاجة، في ظل هذه الحكومة ذات الطابع الإقصائي لكل ما هو مرتبط بالجمال، على أساس أن تدريس الفنون في المغرب ليست له الأولوية في اسطوانة الإصلاح الذي لن يأتي. لقد تراجع تدريس الفنون التشكيلية تراجعا خطيرا وذلك راجع للقرارات المرتجلة المنبثقة عن جهل بخصوصيات الفنون التشكيلية من لدن القائمين على هذا المجال. في المغرب لا نحتكم إلى مؤسسات الدولة ومشاريعها المؤسساتية ذات البعد المستقبلي، بل إلى نزوات شخصية وحزبية سياسوية ضيقة الحدود والنظرة، ما يفقد لأجيالنا القادمة فرصة الالتحاق بركب عصر الصورة والتكنولوجيا والانترنت. أعتقد أن هذا القصور والانغلاق على الذات يمنعنا من التفاعل مع باقي أرجاء «القرية العالمية»، على حد قول مارشال ماكلوهان الذي تنبأ في منتصف القرن التاسع بإمكانية اندماج الشعوب وثقافاتها لتتحول إلى قرية واحدة.
ومما يساهم في تأزيم الوضع والإحساس بالإحباط لدى مدرّسي مادة التربية التشكيلية التهميش الممنهج من طرف المؤسسات الاجتماعية التقليدية (الأسرة والمدرسة)، وضعف الفهم الذي طال طبيعة المادة ودورها التربوي، والتملص من تخصيص مناصب مالية لتوظيف أساتذة مادة التربية التشكيلية بالسلك الإعدادي منذ ثلاث سنوات، ما يمهد لمحاولة حصر تدريسها والانتقال بها إلى مطب الاختيارية.
إن مدرسي هذه المادة يعملون في ظروف صعبة ومهينة أحيانا وغير محفزة على أداء الواجب التربوي المنوط بهم، وهذا من بين الأسباب الجمة في الفشل والهدر المدرسي، وعموماً نجد قاعات التربية التشكيلية رديئة لا تصلح حتى لنفايات المؤسسة، إنها فضاءات مهملة مهترئة، علاوة على النقص المهول الحاصل في الوسائل التعليمية وقلة فرص التكوين المستمر والموازي. إنها جملة من المؤشرات والمعطيات السلبية التي توضح بجلاء أن هذه المادة زائلة كما حصل في السبعينيات للفلسفة وعلم الاجتماع.
■ أخيراً، ما هي مشاريعك المقبلة؟
□ على الورق تكون المشاريع كثيرة، ولكن حين يبدأ العمل والتطبيق ينتهي الكلام ويفسح المجال للمنتج الفني على مقاييسه الواقعية. كالعادة أتأهب للمشاركة في معرض جماعي في مدينة فاس، وآمل أن أفتح مع زملاء من مدينة الخميسات فضاءات لإقامة المعارض التشكيلية في المدينة. في هذه المرحلة أستعد لتجربة جديدة، حيث سأدخل مرحلة الإنتاج التشكيلي بخامات لم أوظفها من قبل كالحديد والمواد المسترجعة الأخرى، لبناء تشكيلي يمزج بين اللوحة التقليدية واللوحة البارزة المستمدة من النحت والنصب الناتئ. كما أنني بصدد توثيق كل المراحل والتجارب التي مررت من خلالها على شكل كتيب جامع لمسيرتي التشكيلية بتعاون مع كتّاب صاحبوا وعايشوا معي تلك المراحل التشكيلية.
الطاهر الطويل