ترى الباحثة المغربية بشرى سعيدي أن التحليل النفسي ـ باعتباره أحد ركائز الفكر الحديث ـ أضحى ينافس الماركسية واللسانيات والسيميائيات في قراءة النصوص الإبداعية. كما أنه جذب النقاد العرب لاستثماره من أجل تطوير الفكر الأدبي، ولمساهمته في توعية الإنسان العربي بذاته، وتخليصه من مخلفات الأساطير والخرافات ورواسب التقاليد الموروثة.
في كتاب «نظريات التحليل النفسي والمسرح» الصادر ضمن منشورات غيداء في الأردن، تؤكد المؤلفة بشرى سعيدي على أن المنهج النفسي يمكّن من فهم شخصية الأديب والفنان، انطلاقا من آثاره الإبداعية، فيمكن أن نصنف البعض عصابيا، والآخر نرجسيا، وذاك تسيطر عليه عقدة أوديب أو إلكترا. وتشير الكاتبة إلى أن «الفرويدية» حققت نتائج مذهلة في الفكر والأدب، وأضحت لها امتدادات واسعة وعميقة بسبب تفاعلاتها المثمرة. وبدورها، استطاعت «اللاكانية» تطبيق النموذج اللساني على معطيات التحليل النفسي وتحويل الأفكار العدوانية اللاشعورية إلى فعل لغوي ناجم عن تصورات «لاكان» الجدلية باعتبار اللغة بناء قائما بذاته. وبالإضافة إلى فرويد ولاكان، تتوقف الباحثة عند إسهامات يونغ في اكتشافه للاشعور الجمْعي الذي يعدّ مصدرا للإبداع بين البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم، كما تعرّج على نظرية أدلر، التي تتمحور حول مبدأ النقص لدى المبدع، باعتباره الدافع الأكبر للتعويض وتأكيد الذات، في حين توضح الكاتبة أن مورون اعتنى بالمؤلف وتاريخه، وكذلك بالعلاقات السطحية بين الآثار الأدبية والحياة.
ولدى التطرق إلى علاقة التحليل النفسي بالأنواع الدرامية، تحلل المؤلفة عنصر الضحك بالنسبة للكوميديا، لذلك استعماله يحقق نتائج نفسية تتجلى في الحديث عن المكبوت والمحرم، وفي النقد الاجتماعي وكذلك في كونه وسيلة ضد الاكتئاب ووسيلة للتخفيف من الحالات الانفعالية، كالخوف والقلق والغضب. في حين تتقاطع التراجيديا وعلم النفس في العناصر التالية: التطهير، الابتهاج، الشفقة، الشعور بالتوازن والتنوير. أما عن علاقة المرتجلة بالتحليل النفسي، فإن «المرتجل» يظهر شبيها بالشخص المريض الذي يسرد للطبيب ما يجول في خاطره، انطلاقا من سؤال أو فكرة معينة؛ فالمرتجل يبحث في مخزونه عن الذهني والعاطفي، عن رصيد يمكنه من تأليف مسرحية قد تكون كوميدية أو تراجيدية أو تجمع بين كلتيهما. بينما تعدّ البسيكودراما الأكثر استفادة من التحليل النفسي لكونها تجمع في مفهومها بين المصطلح الطبي والمصطلح النفسي، ويتم ذلك بواسطة تقنيات تستخدم كأعراض علاجية، وتتمثل في أن المسرحيّ له الحق في استخدام كل الوسائل المتاحة لتحقيق هذيانه.
وترصد بشرى سعيدي تأثير التحليل النفسي في عدد من التجارب المسرحية الغربية، ولاسيما مسرح العبث ومسرح القسوة ومسرح أرتو ومسرح ستالينسلافسكي. لتنتقل، بعد ذلك، إلى تحليل القضايا والتجارب المسرحية العربية في ضوء التحليل النفسي، من خلال مقاربة جورج طرابيشي وعز الدين إسماعيل لمسرح توفيق الحكيم.
وفي محاولة لتطبيق ميداني لمنهج التحليل النفسي على نماذج عربية، تسلط المؤلفة الضوء على عملين، أحدهما عربي والثاني مغربي، يتجلى الأول في مسرحية «بيت الجنون» للكاتب الفلسطيني توفيق فياض، التي تجسد اهتماما قويا بأسطورة الموت والولادة، حيث تم توظيف الروح الفاعلة اللاشعورية للإنسان وتقنية الاستيهام اللاشعوري واللبس الكلامي. ومن ثم، فقارئ المسرحية يجد في موت شخصية «لبنى» موتا لذاته، وهروبا من عالم عربي يئس من وطأة المستعمر الغاشم، ومن احتلال إسرائيلي. فالموت، هنا، تحرر من قهر المستعمر، وهو وحده الذي يسمح بالانبعاث كولادة جديدة، عسى البطل يتمكن من مواجهة ضغوط الحياة، بعد أن تنصهر المصالح الفردية في الجماعية.
أما العمل الثاني الذي تخصه الباحثة بالدراسة والتحليل فهو مسرحية «كاهنة المطبخ» للمبدع المغربي محمد تيمد، حيث تبرز فيها مجموعة من الخصائص، على النحو التالي: التركيز على الصراع النفسي كأهمّ صانع للأحداث وتوظيف الحلم والخيال، وتوظيف تقنية الصمت المثير كقناة جديدة للتعبير، واستعمال لغة ساخرة عاجزة عن التعبير، تختزل تفكك العلاقات الإنسانية، ووجود شخصيات خارجة عن المألوف تتميز في الغالب بملامح مرضية، وخلق أجواء غرائبية وفانتازية عبر أفق ينبني على تركيبات غير متوقعة في المرجع التاريخي أو الواقعي، وعدم الإحساس بالزمن وتجريديته وتجريدية المكان والعودة إلى الواقع بوعي جديد.
“نظريات التحليل النفسي والمسرح” لبشرى سعيدي: التحرر من مخلفات الأساطير
