يقدم كتاب الوجه والقناع في المسرح إضاءات وافية علي تجليات توظيف الأقنعة في الطقوس الاحتفالية والفنية، في الحضارات القديمة أو الحديثة، وكذا استعمالاته ودلالاته المختلفة لدي شعوب عديدة بمناطق متفرقة من العالم، علاوة علي أنماط مقارباته النظرية من لدن الباحثين والمبدعين الغربيين.
الكتاب هو إعداد وترجمة قام بهما الباحث المغربي أحمد بلخيري، لكتاب (القناع من الطقس إلي المسرح) Le masque du rite au theatre الذي سبق لمجموعة الأبحاث المسرحية والموسيقية التابعة للمركز الوطني للأبحاث العلمية بفرنسا أن أصدرته سنة 1985، ثم أعادت إصداره في طبعتين لاحقتين سنة 1991 وسنة 1999. ويتضمن الكتاب خلاصة للأبحاث التي قدمت ضمن مائدة مستديرة عالمية حول موضوع القناع في الطقوس وفي المسرح ، نظمتها المجموعة المذكورة خلال فترتين زمنيتين منفصلتين: الأولي أيام 2، 3، 4 كانون الأول (ديسمبر) 1981 والثانية أيام 28، 29، 30 نيسان (أبريل) 1982. ولا يقتصر الكتاب علي تلك الأبحاث فقط، بل يشمل أيضا أبحاثا أخري وشهادات ومناقشات للمواد التي ألقيت في المائدة المستديرة المشار إليها.
ويوضح أحمد بلخيري أنه جري تقسيم مجموعة البحث إلي ست فرق، إذ تكلفت كل فرقة بمحور من المحاور التالية: تاريخ المسرح، فرجات واحتفالات ، مسرح القرن العشرين ، المسرح ظاهرة اجتماعية ، محترف التطبيقات المسرحية اليوم ، علم الموسيقي ، المسرح والسمعي ـ البصري .
ويشير إلي أن ميدان أبحاث المجموعة كان عالميا، وهو ما يفسر تركيبها وموضوعات أبحاثها. لذلك، كان التنسيق مع الأساتذة الباحثين وممارسي المسرح من كل الآفاق. وقد كانت الصدارة للبحث الميداني بالمعني الكامل للكلمة، وبصفة خاصة بالنسبة للذين يعتبر المسرح الحديث موضوع اشتغالهم. ثم إن بحثها متداخل الاختصاصات، فهي لا تعتقد بوجود جمالية عامة للمسرح، ولكن بعلم حيث تكون التسمية ـ في أصلها الألماني ـ هي: علم المسرح، الذي تُعرَف خصوصية موضوعه، ولكنه يستعير مناهجه من التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والإثنولوجيا واللسانيات.
ويورد الباحث قولة لأوديت أسلان تفيد أن القناع غدا جوهريا في العرض المسرحي، وأنه متعدد المظاهر ومختلف المعاني ومتنوع الوظائف؛ مضيفا أن القناع استعمل بطريقة نموذجية في الدراما الإغريقية و كوميديا ديلارتي ، وأهمل بصفة خاصة من قبل المدرسة الطبيعية. ويستدرك بالقول إن القناع ليس ظاهرة خاصة بالمسرح، فهو يعود إلي الاحتفالات الشعائرية أو الطقوسية، إلي تعبّد شعوب غابرة، إلي طقوس الخصوبة والاحتفالات الكرنفالية.
إن التقنّع ـ في طقس من الطقـــــوس ـ هو منح حياة إلي كائن أعلي، إلـه. عبر هاته الأشيــــــاء من الخشب، من العاج أو الورق، نجد أنفســـــــــنا في مقابلة مع بانثيون Pantheon (معبد الآلهة) القارات الخمس، إننا نرجع إلي الإحيائية، إلي البوذية، إلي الصوفية. لقد تم اقتيادنا إلي التأمل في طريقة للحياة، في نظام للتفكير وفي فلسفة. ويتابع: إن الأقنعة والاحتفالات المقنّعة تؤدي إلي تحمّل المسؤولية الروحية للجماعة. والقناع جلد ثان علي الوجه، ورأس آخر أكثر كبرا.
وهو، أيضا، جسد يبدو متحولا وخارجيا. غير أنه، في الواقع، متحول من الداخل، كما أنه يحيي أسطورة ويؤدي إلي شهرتها، أسطورة يكون فيها التحام الكل، ويثير أيضا الانفعالات. إن الرمايانة أو المهابهارتا ، الحكايات الطويلة المتدفقة التي تبرز نزاع بوذا مع نزوات مخيفة، لا تعتبر حكايات للأطفال، ولكنها تنعش من جديد القلوب وتحثها علي المقاومة من أجل الخير وضد الشر.
ويبين أحمد بلخيري أن الكتاب الأجنبي القناع من الطقس إلي المسرح (الذي أُعدت مواده وقُدمت من لدن أوديت أسلان ودينيس بابلي) يُستهل بأسئلة عديدة تتمحور كلها حول القناع، من قبيل: ماذا نفهم من قناع في المسرح؟ هل هو هذا الشيء البسيط من الكارتون الموضوع علي الوجه، أو القناع/ الشخصية؟ ما سبب انتمائه إلي الطقس، اللعب الكرنفالي؟ ما هي خصوصيته؟ لماذا يختفي في بعض العصور، ويظهر مرة أخري في غيرها؟ لماذا يرفضه المخرج المسرحي؟ ما هي الرغبة العميقة التي يتوافق معها بالنسبة للذي لا يستطيع تجاوزه؟ هل هو جمالي و/ أو وظيفي؟ ما هي الوظائف التي تحدد له في نمط ما من الدراماتورجية والعرض؟ هل يؤثر في الصوت والحركة؟ ما هو اللباس الذي يناسبه وكذا الفضاء والإيقاع؟ هل يتدخل مبدع الأقنعة في التصور الخاص بالفرجة وحمل الأقنعة؟ كيف يتلقي المتفرج فرجة مقنعة؟
ومما جاء في الكتاب أن القناع يحمل السحر والعقيدة في الكوميديا، ويمنح وجه الممثل بعدا أكبر من البعد الإنساني. وبفضل البلاغة الكبيرة للقناع، احتلت كوميديا ديلارتي منزلة كبري بين مختلف المسارح الكبري، بين مسرح أثينا اليوناني ومسرح النو الياباني، بين الكرنفال وطقوس إفريقيا والشرق. لكن، من وجهة نظر الممثل، يعتبر القناع إكسسوارا مسرحيا لا يتغير، بينما النصوص تتغير. إنه، قبل كل شيء، يغير وجهه في المسرح، بالطريقة نفسها التي يخفي فيها اسمُه المسرحي اسمَه الحقيقي. إن وضعية القناع في كوميديا ديلارتي هي أنه مرتبط باسم مسرح الممثلين، باعتباره علامة علي الثبات وتكرار الأدوار. لذا، يجب تخليص القناع من الرواسب البلاغية التي هي ثمرة الأحكام الجاهزة.
وبعد سرد عناوين الكتاب وأقسامه علي النحو التالي: من الطقس إلي الكرنفــــال، مسارح تقليدية، مسارح الماضي، القرن العشـــــــرون، من البيداغوجية المسرحية إلي البحث عن الذات، يبدي بلخيري ثلاث ملاحظات يعتبرها أساسية، الأولي هي أن كل باحث من المشاركين في المؤلَّف قدم بحثا في مجال اختصاصه، ولم يتطاول علي اجتهادات غيره، لذلك كانت الأبحاث أصيلة ومفيدة، وقد زادتها المناقشات المثبتة في الكتاب غني علي غني.
والثانية أنه بالرغم من مسعي المجمـــوعة العالمي ، فلا وجود للثقافة والمسرح العربيين في الكتاب؛ لقد تركزت الأبحاث حول مناطق محددة من العالم (الإغريق، أوروبا، أمريكا، اليابان، الصين، فيتنام، بالي، الهند، إفريقيا الغربية). أما الملاحظة الثالثة فهي أن الأبحاث المتعلقة بمسرح القرن العشرين، كانت صفحاتها أكبر عددا بالمقارنة مع باقي الأقسام.
ويأمل أحمد بلخيري أن يساهم هذا الكتاب الذي قام بإعداده وترجمته في تأسيس بحث علمي حقيقي في مجال المسرح بالمغرب، بحث لا يكون المنطلق فيه الخلفيات والأحكام المسبقة، وإنما يكون المنطلق هو موضوع البحث ذاته. كما يرجو أن يساهم في تصحيح تصور مغلوط للحداثة، حيث تختزل هذه الأخيرة وفق هذا التصور ـ كما يقول ـ في مجرد النقل عن الثقافة الغربية؛ بينما الحداثة في مفهومها العميق ليست كذلك. إنها تصور عقلي للوجود، قائم علي الإبداع والاجتهاد والإقرار بحرية الفكر والاختلاف، حتي ولو كانت نتيجة هذا الاختلاف تنقض آراءنا وتنسفها نسفا من الأساس. وهذا في سبيل البناء العقلي للحداثة، قوام الحياة المعاصرة.
الوجه والقناع في المسرح لأحمد بلخيري: بعد عالمي متنوع في غياب الثقافة والمسرح العربيين
