صدر للفنان والناقد التشكيلي المغربي إبراهيم الحَيْسن، حديثا، كتاب بعنوان «الاستشراق الفني في المغرب أيقونوغرافيا مُغايرة»، في 200 صفحة من القطع المتوسط، ويتضمن أربعة أقسام، خصص الأول منها لمفهوم الاستشراق ومجاله الفني (لاسيما الرسم والتصوير)، ويشمل تعريفات متعدِّدة للاستشراق والاستشراق الفني، إلى جانب الحديث عن الحريم الذي يربطه كثيرون بالدولة العثمانية، في إشارة إلى الجناح الواسع الملحق بقصر السلطان الذي يضم مجموعة من النساء المحظيات والمراقبات من طرف حاشية من الخصيان.
كما يرسم القسم الثاني خرائط التصوير الأجنبي في المغرب، بدءا من رسامي البورتريهات والخرائط والصور الإيضاحية الأوائل الذين تعود أعمالهم الفنية إلى مطلع القرن السادس عشر، مرورا بتجربة أوجين دولاكروا باستيهاماته الرومانتيكية وهنري ماتيس بصوره المفعمة بالأرابيسك، وفي ما بعد دوفي وماريانو بيرتوتشي ملوِّن دروب تطوان وجاك ماجوريل مهندس قصبات الجنوب… وغيرهم من الرسامين الذين وثقوا ارتباطهم بالمغرب. وفي شق موالٍ لهذا الفصل، تمَّ التطرُّق لموضوع صورة المغرب من خلال «البوستر» الاستشراقي الذي ساهمت في طباعته ونشره مؤسسات وشركات أجنبية كثيرة تُعنى بالملاحة البحرية والسكك الحديدية والنقل الجوي والسياحة في المغرب.
أمّا القسم الثالث، فيتطرَّق إلى الوصاية الخارجية والتشجيع الأجنبي للوحة الفطرية في المغرب، مع ما رافق ذلك من آراء ومواقف ايديولوجية وإستتيقية متباينة، تأرجحت عموما بين المناهضة من الداخل والتأييد والتحفظ، مثلما يتطرَّق إلى بداية التصوير لدى الفنانين المغاربة، مع التركيز على التجارب الفنية الأولى المؤسسة للرسم في المغرب.
بينما يتناول القسم الرابع مسارات الدرس الجمالي بمدرستي الفنون الجميلة في تطوان والدار البيضاء بما يُمَيِّزهما من تباين إبداعي وبيداغوجي كان له وقع كبير وواضح في رسم معالم التوجه التشكيلي (الإسباني) في الشمال القائم على التشخيص وإبراز المادة المجسَّمة، بخلاف نظيره (الفرنسي) في الجنوب المعتمد على التجريد وحرية الانتشار الخطي واللوني على مسطح اللوحة.
التراث الاستعماري
يضاف إلى ذلك الحديث عن محاولة «جماعة 65» بخصوص مساءلة التراث الفني الاستعماري وتبنِّي خطاب الهوية والعودة إلى الجذور باعتماد أرضية بيداغوجية، ليخلص هذا الفصل إلى موضوع يتعلق بالمعمار الاستعماري في مدينة الدار البيضاء والدعوة إلى حمايته وصونه بعد أن صار مهدَّدا بالمحو والتفتت والاندثار، الكثير منه لم يعد موجودا سوى في لوحات الفنانين المستشرقين والبطاقات البريدية وذاكرة الشيوخ.
وينتهى الكتاب إلى خلاصة واستنتاجات حول التجربة الاستشراقية التي عاشها المغرب في المجال الفني والملأى برسومات وتصاوير عديدة، أنجزت بأساليب إبداعية متباينة عكست جوانب من ثقافة وتراث المغاربة، كما تنطق بذلك ملزمة الصور والأيقونات المرفقة المتضمِّنة «لإسكيزات» ولوحات عديدة أبدعها رسامون ومصوِّرون أجانب من جنسيات وبلدان متنوِّعة.
يكتب فاتح بن عامر (فنّان وناقد أكاديمي من تونس) في مقدمة الكتاب أن للاستشراق قصّة في كلّ بلد عربي وفي كلّ قطر مغاربي، بل وفي كلّ مدينة من مدن الشّرق، ذلك أنّ الفنّانين والمعماريين والمستعربين من الأدباء والعلماء انتشروا في الأرجاء متعالقين ومتنافرين، فأسّسوا للفنّ على الصّيغة الغربيّة كلّ من جهته وبروح متقاربة، لأنّ الاستشراق الفنّي والمعماري والأدبي نهل من ذات الرُّوح وذات النّفس المهتمّ بالغريب والعجيب والمتّصل بسحر الموروث الشّرقي ذي البُعد الرُّوحاني الفائض في زمن عاشه الغرب تحت تداعيات الحداثة الّتي ميّزته وأولته الصّدارة من جهة ودمّرت الفرد الاجتماعي فيه وقيمه الإنسانيّة من جهة أخرى. حداثة التّفوّق العلمي والعسكري والسّياسي وحداثة المكننة والاستغلال والجشع الرأسمالي، هما عاملان هامّان في هويّة وشخصيّة المستشرقين الّذين وجدوا الملجأ والاكتشاف في بلاد الشّرق.
ويوضح الناقد التونسي أن قصّة الفنّ التّشكيلي في المغرب هي ذاته قصّة المغرب الحديث، قصّة متنوِّعة العناصر والأركان والمؤثّرات، يصوغها ابراهيم الحَيْسن من خلال مدوَّنة واسعة من الأسماء والمواقع، بين تطوان وطنجة والدار البيضاء ومكناس ومراكش، تماما بمثل ما هو بين ماريانو بيرتوتشي وجاك ماجوريل، أو بالأحرى بين استعمار فرنسي وآخر إسباني ووصاية دوليّة ومناطق حرّة، ومن ماجوريل وبرتوتشي إلى فريد بلكاهية ومحمد المليحي وأحمد الشّرقاوي وجيلالي الغرباوي ومحمد القاسمي وغيرهم من الفنّانين الأعلام تكوّنت معطيات ثريّة بالتّوجّهات والبحوث التّشكيليّة والفكريّة الّتي بصمت بقوّة رُوح الفنون التّشكيليّة المغربيّة. كان الاستشراق فيها هاجسا تأسيسيّا مدعوما بالاستعمار حتّى صار محلّ قطيعة إبستيمولوجيّة يبنيها الفنّانون الرّواد والطلائعيّون من الأهليين أو بالأحرى من المغاربة بروح الاستقلال والمعرفة والوعي.
ارهاصات الايتوغرافيا
ويتابع فاتح بن عامر قائلا: حكاية الفنون التّشكيليّة في المغرب الأقصى، حكاية مناورة وبناء، فلم يعد ضوء المغرب وشمسه لدى دولاكروا أو نساؤه وحريمه عند غيره من الفنّانين قبلة الفتنة التّشكيليّة، بل صار ضوء الرُّوح ونور المعرفة المغربيّة هي التي تقود المجهود إلى فنون تشكيليّة مغربيّة واعية تحاور منجزها وذاتها دون وصاية برَّانيّة أو بالأحرى من خلال الوجدان الوطني، حسب تعبير إبراهيم الحَيْسن. هذا الحسّ الّذي لم يدر ظهره لفنون الأهالي التقليدية في ظلّ تبنّي الاستعمار لها، بل حاورها ونقدها وساهم في تأطير مسارها من خلال اجتهاد جماعة 65 من المفكّرين الكبار الذين أنجبهم المغرب على غرار عبد الكبير الخطيبي والطاهر بن جلّون ومصطفى النيسابوري، ومن تلاهم مثل محمّد بنّيس ومحمد القاسمي في جماعة الثّقافة الجديدة.
ويخلص كاتب المقدمة إلى اعتبار هذا المؤلَّف محاولة جريئة لقراءة تاريخ الفنون التّشكيليّة المغربيّة مسارا وتأسيسا بعين محايدة من خارج الصّراعات وبمبحث أركيولوجي دقيق وأدوات نقديّة واضحة؛ هو كتاب تاريخ في الظّاهر، لكنّه في الحقيقة كتاب نقد ومرآة للحاضر.
أما مؤلف الكتاب إبراهيم الحيْسن فيوضح في استهلاله أن الإرهاصات المبكرة والممهِّدة للأيقونوغرافيا الأجنبية في المغرب لا ترتبط بالعقود الأولى للقرن التاسع عشر فحسب، في ذلك مجال الرسم والتصوير مع التجربة الاستشراقية الرائدة للرسام الرومانتيكي أوجين دولاكروا وزيارته لمدينة طنجة ـ كما تناولت الأمر جلُّ الكـــتابات والنصوص ـ ، بل إنها تمتد (إبداعيّا) إلى أبعد من ذلك، إلى القرن السادس عشر إبَّان حكم الدولة السعدية في المغرب بقـــيادة أحمد المنصور الذهبي سادس سلاطــين دولة الســـعديين والذي امتدت فترة حكمه من سنة 1549 حتى رحـــــيله سنة 1603، وهي فترة تاريخية حسَّاسة كانت شهــــدت صراعات ضارية بين العثــــمانيين والأوروبـــيين الذين دفعتهم أطماعهم إلى اجتياح المغرب كان من نتيجتها نشوب معركة وادي المخازن (معركة الملوك الثلاثة).
بعد ذلك، ينتقل إلى ما أسماها الحقبة الحسَّاسة من تاريخ الفنون التشكيلية في المغرب، التي أعقبت مرحلة الاستشراق الفني وظهور جماعة الرسامين الفطريين، مشيرا إلى أن تلك الحقبة شهدت ميلاد كوكبة من الفنانين التشكيليّين المغاربة الحداثيين كانوا تتلمذوا على أيدي فنانين مستشرقين ونحتوا تجاربهم الإبداعية الفردية من بعد تكوينهم في المدارس والمعاهد الأوروبية وغيرها، منهم على سبيل المثال أحمد الشرقاوي، جيلالي الغرباوي، فريد بلكاهية، محمد شبعة، محمد المليحي… وغيرهم من الفنانين الذين تشبَّعوا بتيّار التجريد في الفن التشكيلي العالمي واستوعبوا بعض مناهجه وأساليبه، لاسيما بعد تأثرهم بمجموعة من الفنانين العالميين الذين قعَّدوا لظهور الرسم التجريدي الذي نعته الناقد كوفمان بـ«لعبة الأشكال المحضة»، أغلبهم ينتمون إلى «مدرسة باريس» و«مدرسة نيس»… وحين عاد هؤلاء الفنانون إلى بلدهم المغرب معزَّزين بخبرة فنية إضافية دفعتهم إلى تبنِّي فكرة الحداثة التي «خلّصتهم» ـ إلى حَدٍّ ما ـ من الإرث الفني الاستعماري، حيث حاول البعض منهم تغيير ملامح التوجه التشكيلي في المغرب وتوجيه مساره التقليدي والسعي إلى خلق اتجاه حديث في الفن بالبلد. تجلَّى هذا الموقف الانقلابي كثيرا لدى بعض فناني الشمال والجنوب المتمرِّدين كنوع من «القتل الرمزي» لأساتذتهم من الفنانين الأجانب (أبرزهم ماريانو برتوتشي)، وذلك بغرض خلخلة الفهم الجامد الذي ساد التصوير المعاصر في المغرب وإعادة صياغته على قاعدة إبداعية جديدة تنطلق من إحياء الفنون الشعبية الوطنية التي رسَّخت حضورا عضويّا عميقا في التربة المغربية الخصبة التي تمتد جذورها إلى التراث العربي الإسلامي والأفريقي، كما قال الفنان التشكيلي الراحل محمد شبعة.
ويلاحظ المؤلف أن هذا التمرُّد لم يكن عاديّا، إذ تجاوز بُعده الإبداعي وصار خطابا إيديولوجيّا، لاسيما بعد أن وجد أرضية سياسية خصبة تبحث في مناهضة الاستعمار وطرح سؤال الهوية الوطنية، الأمر الذي بدأ يزعج أجهزة النظام القمعيّة في المغرب آنذاك التي شرعت في مراقبة هؤلاء المبدعين بشكل ملفت للنظر، مستفز أحيانا، تسبب في الزجِّ بالبعض منهم في السجن منذ بداية السبعينيات، أبرزهم الفنان محمد شبعة الذي كان مناضلا في صفوق اليسار المغربي، قضى بسبب مواقفه فترة من الاعتقال ضمن نشطاء حركة أقصى اليسار سنة 1972.
ومن ثم، فإن الظرف ـ حسب إبراهيم الحيْسن ـ لم يكن سهلا لتأسيس الحداثة في التشكيل المغربي مع ظهور المبدعين المذكورين من الرعيل الأول الذين سعوا إلى إرساء دعائم الفن الحديث في المغرب أولوا اهتماما كبيرا للآثار التصويرية والأشكال النموذجية للرسم الحديث. وتُعَدُّ تجاربهم التشكيلية من التجارب المغربية الأولى التي تأثرت بالفن التجريدي.
ويشير الكاتب إلى أن التصوير الاستشراقي في المغرب لم يقتصر على الرسم فقط، بل امتد مجاله نحو التصوير الضوئي (الفوتوغرافيا) الذي ارتبط ظهوره لأول مرَّة في المغرب بفترة ما قبل الحماية الفرنسية، ليتحدث عن تطور فن الفوتوغرافيا بهذا البلد ومساهمته في تشكيل وعي فني وجمالي.
الطاهر الطويل