لاشك في أن زائر المناطق الصحراوية المغربية يسترعي انتباهه حرص العديد من الأسر المستقرة في المدن على استحضار رمزية الخيمة، ولاسيما خلال بعض المناسبات العائلية أو المهرجانات، لأن تلك الخيمة السوداء المصنوعة من شعر الماعز ووبر الإبل ترتبط في المخيلة بماض مجيد ما زال في عالقا بالذاكرة يرويه السلف للخلف.
وجاء كتاب «الخيمة: روح الصحراء» لصاحبيْه، الباحث الأكاديمي رحال بوبريك والمصور الفوتوغرافي سعد التازي، ليوثق للخيمة في الفضاء الصحراوي المغربي، من خلال وصفها وكيفية بنائها، وتقديم نبذة عن تاريخها والتمثل الاجتماعي والثقافي لها، وإبراز مكانة المرأة فيها.
وكما وَرد في الكتاب: تُعـدّ الخيمة موضع حنين للمستقرين في المدن، لأنها تحيلهم إلى حياة ماضية افتقدوها إلى الأبد، ولم تبق منها إلا ذكريات، تحضر فيها الخيمة بقوة، وتتجسد في روايات الماضي والأشعار والأغاني وأمسيات الطرب في شكل بكاء على الأطلال. أما حضور الخيمة الملموس، ولاسيما في المناطق الصحراوية المغربية، فإنه لم يعد يتعدّى توظيفها في مناسبات رسمية، رمزاً لحياة البدو، ومكونا أساسيا لتراثهم، حيث تزين وتؤثث فضاء المهرجانات الثقافية بزهو، شامخة على الأرض، وفي قلوب من سكنوها لعقود، تقاوم الزمن بكبرياء. ويعتبر موسم طانطان، ملتقى الرحل التقليدي، من أهم المناسبات التي أصبحت فيها لخيمة الشَّعَـر مكانة أساسية كمكوّن من مكونات التراث الذي يجب المحافظة عليه، منذ إعلان هذا الموسم تراثا عالميا للإنسانية من طرف اليونسكو عام 2004.
ويعود وصول خيمة الشَّعر للصحراء الأطلسية إلى وفود القبائل العربية المعقلية إلى المنطقة، قادمة من المشرق العربي، انطلاقا من القرن 13م، فإلى حدود هذا التاريخ كانت القبائل الصنهاجية التي ترتحل في هذا الجزء من الصحراء تستعمل أكواخا مصنوعة من الأغصان أو جلود الحيوانات.
ولا يمكن اختزال الخيمة في طابعها الهندسي المعماري أو مجرد سكن يحمي من قسوة البرد شتاء والقيظ صيفا، فللخيمة أبعاد اجتماعية وثقافية ورمزية بالغة الدلالات. إنها ـ مثلما كتب رحال بوبريك ـ انعكاس وتعبير عن التنظيم والقيم والتمثلات الاجتماعية للرحل. الخيمة تجسيد للواقع والمتخيل البدوي، فهي ـ مثلا ـ بالحسانية تعني العائلة التي هي رمز لاستقرار الفرد واستقلاليته الاجتماعية بعد الزواج وتحقيق كيانه وشخصيته. وداخل فضاء الخيمة كانت تنسج العلاقات العائلية الحميمية، وتصهر الروابط بين أفراد العائلة الواحدة والعشيرة والقبيلة. كما أن القيم والتمثلات تجد تجسيدا لها داخل الخيمة، بتقسيم فضائها الداخلي بين فضاء ذكوري وآخر نسائي. وفي حال عدم وجود رجال (ضيوف)، فإن المرأة تقوم برفع الحاجب بين الفضاءين. هذه التمثلات تعكس تصور المجتمع القائم على التقسيم بين الجنسين، وما يتطلبه ذلك من حجب المرأة عن أعين الغرباء وحمايتها، نظرا لاعتبارها «حرمة»، تحمل شرف صاحب الخيمة، فمجالها ممنوع على العالم الذكوري، رغم أن هذه العادات لا تسجن المرأة البدوية في ركن من الخيمة، فهي تتمتع بحرية قلّ نظيرها مقارنة مع المرأة العربية المسلمة في عدد من المجتمعات الأخرى. فالخيمة ليست مجالا مغلقا ومسيجا بالأسوار كما هو حال المنزل والمدينة، بل هي فضاء مفتوح على العالم الخارجي، حيث تتحرك المرأة بكل حرية وإباء وكرامة.
ولا عجب في ذلك، فالمرأة البدوية الصحراوية تعدّ القلب النابض للخيمة، وتقترن حياتها بها بشكل مدهش، فمنذ ساعة خطوبتها تشرع في مساعدة أمها في نسج خيمة جديدة، وبعد الزواج تحمل خيمتها بكل معدّاتها إلى مضارب زوجها، لتبدأ دورة تأسيس عائلة جديدة في المجتمع، إذ تقوم المرأة بإعادة إنتاج نمط الحياة داخل الخيمة الذي تلقنته منذ طفولتها في خيمة والدتها، لتصبح بدورها حجر زاوية الخيمة، فلا حياة داخل الخيمة بدون امرأة تسهر على بعث الحياة داخلها، ولاسيما أن الزوج كان يقضي معظم أوقاته خارج الخيمة مع قطيعه بحثاً عن المراعي وموارد العيش.
وقد ارتبطت الخيمة بالترحال، ولذلك روعي فيها البساطة والسهولة في البناء والتركيب والنقل. فالمرأة حين تنتهي من نسج خيمتها تمدها أرضا على الموقع المراد بناؤها عليه، وبمساعدة نساء أخريات تقوم بنصب الخيمة. وحين يحين موعد الرحيل، تقوم المرأة بتفكيك الخيمة لطيّها ووضعها على الجمل. فالبدوي دائم الترحال بحثا عن مواطن الماء والكلأ والمرعى. ويؤخذ بعين الاعتبار في نصب الخيمة العديد من العوامل، كأن يكون المكان بعيدا عن مجاري المياه وأماكن الرمال والرياح. وتنصب الخيمة في الصحراء عادة في اتجاه الجنوب، نظرا لقلة الرياح التي تهب من هذا الاتجاه، وفي حال هبوب الرياح من الجنوب يسدل ستار على الباب وتفتح الخيمة من الخلف.
واشتهرت في الصحراء المغربية أنواع معينة من الخيام ذات وظائف محددة: خيمة الضيافة، خيمة «الصانع» أو «لمعلم»، وخيمة «الطالب». فخيمة الضيافة تتوسط المخيم متميزة عن باقي الخيام الأخرى، بحجمها الكبير، كي يسهل على عابر السبيل معرفتها. وتكمن وظيفتها في استقبال الضيوف، وانعقاد اجتماعات العشيرة لمناقشة الشؤون العامة. وللضيافة في الصحراء مكانة مقدسة، فسكانها معروفون بكرمهم وحسن استقبالهم للضيف. أما خيمة «الصانع» فهي تقع على طرف المخيم، حيث يسهر صاحبها «الصانع» على توفير جميع الأدوات التي يستخدمها الرحل في حياتهم اليومية وأواني الخيمة، إلى غير ذلك من الأواني المصنوعة من الخشب والحديد، وتتكلف زوجته «الصانعة» بالصناعات الجلدية والحلي وأدوات الزينة. أما خيمة «الطالب» فإن وظيفتها تعليمية تحت إشراف فقيه يتكلف بتعليم مبادئ القراءة وتعاليم الدين، كما يساهم في تدبير الشؤون الدينية، ويُستشار في حل قضايا سكان المخيم. أما الخيمة الأخيرة، فهي حاضرة في حياة المخيم، ألا وهي خيمة «الرك» (أو خيمة العرس)، إذ ما أن يُعلن عن عقد قران، حتى تشرع عائلة العريس والعروس في نصب خيمة هي غالبا ما تكون عبارة عن «بنية» أي من القماش الأبيض، على هامش المخيم، لتحتضن حفل الزفاف.
أمام تراجع استعمال خيمة الشعر السوداء، ظهرت الخيمة من النسيج الأبيض، سواء مصنوعة أو مخيطة بيد النساء من القماش البالي وأكياس الدقيق والسكر وقطع أخرى من الثياب المستعملة. ولقد شهد هذا النمط من الخيام انتشارا واسعا في العقود الأخيرة، نظرا لسهولة حملها ونصبها وكذلك صناعتها وانخفاض ثمنها. وحتى وإن اقتبست العديد من بنيتها ووظيفتها من خيمة الشعر، فإن الخيمة البيضاء تختلف عنها في العديد من أوجه بنائها. وقد برعت النساء في زركشة وتزيين الخيمة الحديثة، لكي تصبح من الداخل أكثر بهاء، مقارنة مع خيمة الشعر التي كانت تقتصر على ما هو أساسي وبسيط. هذه الخيمة هي الأكثر استعمالا حاليا في الصحراء المغربية، إذ نجدها لدى الرحل الذين يجوبون المنطقة مع قطعان الإبل والماشية، كما يوظفها ساكنة المدن عند الشواطئ للاستجمام، وقد تغيرت في تقسيم الفضاء، إذ أصبحت شبيهة بحجرة في منزل، متأثرة بصيرورة التحول الذي شهده المجتمع الصحراوي طيلة العقود الأخيرة.
الطاهر الطويل