«غناوة» موسيقى ورقصات تستحضر رحلة استنشاق عبير الحرية

استطاع مهرجان «غناوة» الذي تحتضنه مدينة الصويرة المغربية، منذ حوالي عشرين سنة، أن يعيد الاعتبار لشريحة اجتماعية مغربية ارتبطت بنوع معين من الموسيقى والرقص والغناء، يلتقي فيه الجانب الفني مع جوانب أخرى طقوسية وروحية.
كما أن ذلك المهرجان أتاح إخراج فن «غناوة» Gnaoua من طابعه الأنثروبولوجي (الإثنوغرافي) ليكسبه بعدا عالميا، جعل من مدينة الصويرة قبلة لأفواج متزايدة من السياح الذين يختارون الاندماج في احتفاء جماعي، تتراجع فيه اللغة الملفوظة، لتحضر لغات الجسد والألوان والإيقاعات ونبضات الوجدان، وتنفلت الذات من سطوة اليومي ورتابة الحياة.
يفضل الباحث المغربي الدكتور عبد الله خليل مؤلف كتاب مختص في الموضوع أن ينعت «غناوة» بالظاهرة، حيث يرى أنها لا تقتصر على اللباس والموسيقى والرقص، فـ»الغناوي» ليس فقط ذلك الشخص الذي يحمل «السنتير» أو «الهجهوج» (آلة وترية) أو طبلا أو «قراقب» (آلات إيقاعية من حديد) ويلبس لباسا معينا ويرقص بطريقة معينة، وإنما هي ظاهرة متشعبة ومعقدة، يمتزج فيها الأسطوري بالتاريخي والسياسي بالعقدي والديني والاجتماعي بالنفسي. إنها نوع من الصوفية في تجلياتها، لما فيها من ذِكر وتغن بالرسول محمد (ص) وبآل بيته وصحابته، وهي مجرد موسيقى تنفس عن مريدين، لأنها هدهدت أوتار نفوسهم، كما كانت في ما مضى تنفّس عن أناس وجدوا أنفسهم صدفة سلعة في سوق النخاسة. هي جلسات علاجية للبعض تنأى عن الجانب العرقي أو الجنسي. كما أنها قد تكون طريقا لولوج عوالم شيطانية عند البعض الآخر، لما لها من استدعاء للأرواح وقوى الظلام وتقديم القرابين. إنها عالم «الجذبة» (تجاذب الأرواح للحلول بالجسد) إنها طقس صلاة للتقرب لقوى ما. لا جذبة بدون رقص، ولا رقص بدون موسيقى، ولا انسجام بدون تأثير الكلمة. وحين تزداد وتيرة الإيقاع، تبلغ حركة الجسد مستوى يمكنه من تعطيل نفسه ليتاح للمريد العبور. فلا عبور ما دامت الحواس تشتغل، وما دام العقل يمارس الرقابة. فالجمل الموسيقية المكررة وحركة الجسد هي التأشيرة للمرور إلى الجذبة، حيث يتموقع الإنسان ما بين عالمين.

 

أصول زنجية

 

يغوص صاحب كتاب «غناوة: الأصول والامتدادات أو المغرب الأسود» في البحث عن جذور «غناوة»، فيشير إلى أن هذا الاسم يطلق على طريقة (صوفية) ذات أصول وروافد متعددة، أهمها الرافد الزنجي، وتعدّ الموسيقى وبعض الطقوس العلاجية أهم ما يميزها.
وتتفق كل المصادر على أن «غناوة» الأصليين هم من سلالة العبيد الذين تم جلبهم إلى مناطق في جنوب المغرب (سوس، واد نون، درعة، تافيلالت…) من منطقة «السودان الغربي» التي تضم حاليا دول السنغال ومالي والنيجر وبنين وشمال نيجيريا وبوركينا فاسو والكاميرون… ليس فقط في إطار ما يسمى «الفتوحات» في عهد حكم المرابطين في المغرب (من 1056 إلى 1147م) بل في إطار التحالفات مع بعض القوى المحلية، كمملكة «التكرور» في حوض السنغال الشرقي التي لعبت دورا مهما ـ رغم صغرها ـ في تجارة الذهب والرقيق، وقد دخلت إلى الإسلام قبل ظهور المرابطين الذين آزروها في ما بعد ضد القبائل الوثنية. ويؤكد مؤرخون أن النخاسة لم تحل مع الوافدين الأجانب، بقدر ما كان هذا النوع من التجارة رائجا بين السكان المحليين، إذ إن الصراع بين فسيفساء الإثنيات جعل الغالب يتملك المغلوب.

 

تقاطعات وتشابهات

 

يُدرج الدكتور عبد الله خليل طريقة «كناوة» ضمن ما يسميه «التصوف الشعبي» تجاوزا، باعتبار ما تبدأ به حفلاتها من أذكار. ويلاحظ أن هذه الطريقة تحيي لياليها ومواسمها في المغرب بشكل تتقارب فيه مع مثيلاتها في بلدان مغاربية كـ»سطمبالي» في تونس و»ديوان» في الجزائر» وإلى حد ما «الزار» على ضفاف النيل، باعتبار أن الأصل يكاد يكون واحدا، أو على الأقل متقاربا، إذ اغترف من منبع واحد، يعود لثقافات تضرب بجذورها في عمق التاريخ الإفريقي الزنجي الحبشي.
والملاحظ أيضا أن أغلب الطرق الصوفية التي تتقاطع مع الطريقة «الغناوية» ـ على الأقل في الموسيقى أو الرقص ـ كان شيوخها الأوائل من غير العرب، أو نشأت في مناطق بعيدة عن المركز، ما يعني أنها تحمل في طياتها معتقدا ثَاوِياً أو ما تبقى من ثقافة ما. فجلال الدين الرومي صاحب الطريقة المولوية التي تعتمد الرقص الدائري لساعات بحثا عن اندماج روحي للرقي إلى مراتب الصفاء والوجد قد أخذ مبادئ التصوف على يد العالم العارف شمس الدين التبريزي الذي مال به من عالم القال إلى عالم الحال، كما يقال. وقد كانت تركيا معقلا للمولوية، لتدخل بعد ذلك إلى معظم الشام، وتتحول إلى طقس شعبي اتخذ مناحي أخرى في التسابيح والتراحيم… وفي مصر، نجد الدراويش أو الجلاليين الذين يؤدون الموشحات الدينية بمصاحبة آلات موسيقية.

 

ليلة «الدردبة»

 

يعدّ «غناوة» أكثر ارتباطا بعالم الجن أو القوى الغيبية أو الأرواح، من خلال القيام بممارسات وسلوكيات مستمدة من روافد أخرى، وممتزجة مع المعتقد الإسلامي الشعبي. ذلك أن إحياء «الليلة الغناوية» (المسماة «دردبة») يجري في أوقات معلومة، ما لم يكن هناك داع أو طارئ لإحيائها (طلب مباشر من الجن للمريض أو للعرافة)، فإذا كانت مناسبة عيد المولد النبوي التاريخ المرتقب من طرف أغلب الطرق الصوفية في المغرب، فإن «غناوة» تنفرد بـ «شعبانة»، والمقصود بها منتصف شعبان، انطلاقا من الاقتناع في أن الجنّ والشياطين يتم تكبيلها ولا يطلق سراحها إلا بعد رمضان، كما أن الليلة «الغناوية» قد تقام في ليلة السابع والعشرين من رمضان، التي يُعتقد أنها تصادف ليلة القدر المباركة.
ويرجح أن كلمة «دردبة» عربية، فلسان العرب يعطي من جذر «دردب» الدرداب، وهو صوت الطبل، أما «الدردبة» فتعني في بعض معانيها الخضوع والتذلل، وربما هي ليلة الخضوع والتذلل لاتقاء شر «لملوك»، إنها الليلة الخاصة التي يحييها شخص أو عدة أشخاص في بيت معيّن، بحضور الفرقة الغناوية والعرّافة والمريدين.
و»لمْلوك» في قاموس «غناوة» لا يقصد به «المُلوك، جمع ملِك، وإنما هي من التملّك، أي الحيازة، والمراد بها أن أرواحا تتملك أجساد البعض، وتكون تحت تصرفها، وتأتمر بأوامرها، وإن لم تفعل ستُلحق بها الأذى، مثلما يوضح الدكتور خليل.
ويقتضي إحياء ليلة «الدردبة» وجود جمهور من الأتباع والخاصة من المريدين، وتتم فيها الطقوس في جو من التكتم والسرية. ويلعب «لمعلم» (قائد المجموعة الذي يقدم خدمات علاجية) و»الشوفة» (أي العرّافة) دورا أساسيا في إحياء الليلة، لكونهما حاملين لمعرفة معينة، تخول لهما التعامل مع العبور واستحضار الأرواح.
وتنطلق الليلة «الغناوية» من بداية انتشار الظلام إلى بزوغ خيوط النور الأولى، حيث تمر عبر مرحلتين متلاحقتين (انظر الإطار أسفله) وتبدأ في الطواف بالقربان بين الأزقة والدروب من خلال موكب يستخدم فيه الطبل و»القراقب» (الآلات الإيقاعية الحديدية) مع ترديد عبارات محددة تدور حول طلب «العفو» والصلاة على النبي محمد (ص). وبعد العودة إلى البيت (مكان إقامة الطقوس) تدخل الفرقة إلى الرحبة (الوسط) وتقصى الأحذية بعيدا، للاعتقاد بضرورة نظافة المكان من أجل استقبال «الأرواح». ثم يؤتى بالقربان (الذي يسمى «هدية لجواد») وهو إما ثور أو كبش أو عنزة، وحين يذبح تجمع الدماء الفوارة منه في طست للتبرك منها، كما يزعم. كما يرش الدم على الآلات الغناوية وفي مختلف أركان البيت، مع ترديد عبارات «التسليم» للأرواح القادمة، وسط أجواء تملأها مختلف أنواع البخور.
وتتوالى الموسيقى والرقصات وترديد عبارات دينية في المرحلة التي يطلق عليها «الجذبة»، فمع تنامي الإيقاع وحدته يتهاوى المريد أرضا وتظهر عليه علامات الصرع، ثم يسقط في غيبوبة، يستيقظ بعدها وقد أحس بالراحة والسكينة، بحسب ما يذكر شهود «الليلة الغناوية».
وعقب سقوط المريد، يقوم أحد أعضاء الفرقة بالدعاء بالفلاح للمتصدقين والشفاء للمرضى، دون نسيان «لمعلم» الذي يُخصَّص له نصيب من الدعاء.
وتتخلل الليلة «الغناوية» فترات استراحة وأكل، علما بأن المأكولات تكون عادة ذات طعم حلو أو يتم تحليتها بإضافة سكر، بينما يغيب الملح عن الأطعمة، للاعتقاد السائد بأن «لملوك» أو الأرواح تفر منه.

 

امتزاج المقدس بالمدنس في الظاهرة «الغناوية»

 

للظاهرة «الغناوية» مستويان، أحدهما ظاهر، يتمثل في الجانب الترفيهي للمجموعة، وهو ذو طبيعة فرجوية، حيث تكون الموسيقى والرقصات وسيلة للتخلص من الكد والتعب اليومي، وهي بمثابة مخفف يسهل استمرارية الحياة، وفي نفس الوقت يتذكر عبرها «الغناوي» الزنجي بلاد الآباء والأجداد. ويمتزج في الموسيقى الحنين إلى الماضي بالبكاء على واقع الحال، وبالأمل في الغد.
كما أن الرقصات في هذا المستوى تكون فيها الحركات ذات رمزية، تمثل تطور حياة «الغناوي» ما بين مرحلة العبودية والتحرر، فحركات القدمين ـ كما يؤولها البعض ـ في بداية الرقص تكون متقاربة ترمز إلى القيد الذي يعيق حركة الرِّجلين في مرحلة الرقّ. لكن، ما أن يحتدم النقر حتى تجدهم يقفزون بشكل بهلواني تعبيرا عن الفرح، إذ ينط «الغناوي» في قفزات متتالية مفرجا ما بين رجليه في الهواء فرحا بالتخلص من القيود.
أما المستوى الخفي من الظاهرة «الغناوية» فهو ذلك الجانب المظلم والخاص جدا، ويتمثل في العروض ذات الطبيعة «العلاجية»، إنه جانب لا يعرفه سوى المريدين الذين يمارسون «الجذبة» ويتجاوزن العالم الحسي إلى العالم الآخر الغامض، الذي يختلط فيه الذكر الصوفي والأمداح النبوية باستعطاف الأرواح والجن والقوى الخفية، عالم يختلط فيه المقدس بالمدنس.
والموسيقى، إذن، ليست غاية في حد ذاتها، وإنما هي وسيلة لبلوغ النشوة، وهي عنصر أساسي، بالإضافة إلى عناصر أخرى تتعلق باستثارة الحواس الخمس للتهييء للدخول في «الحضرة الغناوية».
يعيش «الغناوي» (المولوع، الممسوس، المبتلى) في حاجة دائمة إلى العودة إلى البداية من أجل جعل الزمن الحالي ممكنا. في حاجة إلى أن يغرق دوريا في الزمن المقدس غير القابل للتدمير ـ بحسب تعبير مرسيا إلياد ـ. يكون ذلك عبر المناداة على الجن أو الولي الصالح أو الأرواح، أرواح الأجداد الذين دخلوا بسلوكاتهم قيد حياتهم حيز الأبطال، ثم رفعوا بعد موتهم إلى مستوى التقديس. كما يتم تقديس الأماكن التي وجدوا فيها أو سكنوا فيها أو مروا منها فقط، أو حتى الأشياء التي لمسوها. بل يتم استعادة زمن الحدث المرتبط بهم ليغدو زمنا أسطوريا، حيث تعلن الأسطورة عن وضع يعتبر بداية تتأسس عليه الحقيقة المطلقة. (عبد الله خليل: غناوة الأصول والامتدادات أو المغرب الأسود).

 الطاهر الطويل

ذات صلة