حين يدفع الصحافي حياته ثمنا لقول الحقيقة!

ما أقسى أن يدفع الصحافي أو الكاتب حياته ثمنًا لقول الحقيقة ولكشف المستور! بيد أن جريمة إسكات الأصوات لم تعد تُطوَى وتُدثَّر بالنسيان، إذ تظل تقضّ مضجع المجرمين الحقيقيين المتوارين خلف السلطة، وتبقى وصمة عار على جبينهم، حتى وإن لم ينالوا العقاب المستحق المقابل لفظاعة الجرم. ومَرَدُّ ذلك إلى الدور الجبّار الذي صارت تقوم به وسائل الاتصال المختلفة، بعدما تطورت أدوات عملها، واتسعت قاعدة تأثيرها في أوساط الجماهير.
الصحافة الحرة اليوم لم تعد تكتفي بنقل الخبر وتغطيته، حينما يتعلق الأمر ـ مثلا ـ بانتهاكات حقوق الإنسان عمومًا وحرية الرأي والتعبير خصوصًا، وإنما أمست تقوم بالتحري والاستقصاء في ملابسات الجرائم وخلفياتها ومَن يقف وراءها، محققة ـ أحيانًا ـ قصب السبق على عمليات البحث الأمني أو القضائي؛ بل قد يقع طيّ ملفات ما في ردهات المحاكم، لكنّ الإعلام يُصرّ على إعادة فتحها، لتسليط الضوء على الزوايا المعتمة فيها، والبحث عن أجوبة للأسئلة التي لم يُحسَم فيها بعد.
القناة الألمانية (دويتشه فيله) في صيغتها العربية قدّمت مثالا حيًّا لهذا العمل، حيث بثّتْ ـ أواسط شهر أكتوبر ـ شريطا وثائقيا حول قصّة الصحافية المالطية “دافني كاروانا غاليزيا” التي اشتُهرت بملفات فضح الفساد في بلادها، وذلك بمناسبة الذكرى الأولى لاغتيالها بواسطة سيارة مفخخة قرب منزلها.
والواقع أن هذا الشريط يعود في الأصل إلى القناة الفرنسية الثانية التي بثته قبل نحو خمسة شهور، ضمن برنامجها الشهير “مبعوث خاص”، لكن القناة الألمانية ارتأت تقديمه خلال هذه الأيام العصيبة، لعل “الفاهم يفهم” ويستخلص الدروس والعبر، وذلك عملا بالمثل السائر: “إياك أعني وافهمي يا جارة”!
محاولة للإجابة على الأسئلة الحارقة من قبيل: مَن أمر باغتيالها؟ وما التحقيقات الاستقصائية التي كانت تقوم بها أو تلك التي كانت بصدد إنجازها؟ جمعت منظمة “قصص ممنوعة” Forbidden Storiesخمسة وأربعين صحافيا ينتمون لكبريات المؤسسات الإعلامية من 15 دولة، وذلك في إطار مهمة تلك المنظمة، المتمثلة في متابعة تحقيقات لصحافيين سُجنوا أو قُتلوا. تابع أعضاء المجموعة عمل الصحافية المغتالة “دافني كاروانا غاليزيا” من حيث توقفت، حيث سُمِحَ لهم الولوج إلى محتويات هاتفها وبريدها الإلكتروني والوثائق السرية التي كانت تحتفظ بها، ومن بينها خصوصا تلك المتعلقة بالتلاعبات المالية لمسؤولين من أعلى مستوى. حققت المجموعة في تلك الملفات لمدة خمسة أشهر، متعقبة أيضا أثر الرجال المشتبه بهم في اغتيال “دافني”.
كما تضمن الشريط الوثائقي مقابلات مع زوج الصحافية الراحلة وأبنائها الذين ترعرعوا في بيئة من التوتر المستمر، حيث جرى تسميم كلبهم وقطع رقبة كلب آخر، وكانت “دافني” تتلقى تهديدات متوالية عبر الهاتف، بالإضافة إلى مضايقات من الحزب المسؤول في البلاد (حزب العمل) الذي أطلق عليها أوصافا من نحو: مجنونة، ساحرة، مدوِّنة الكراهية، ملكة النكد… لا لشيء سوى لكون مدونتها الإلكترونية تحظى بمتابعة أكثر من 300 ألف شخص من بين 400 ألف يعيشون في جزيرة مالطا، متفوّقة في ذلك على الصحف التقليدية المحلية. لقد مثلت صوت الحقيقة ومصدرا للمعلومات. كانت جريئة لا تعرف هوادة، هدفها الكشف عن الفساد المالي والاقتصادي في أعلى مستويات الدولة، مثلما يوضح الفيلم.
فريق البرنامج التلفزيوني حصل على آخر تسجيل صوتي لمكالمة كانت “دافني” وجّهتها إلى المجلس الأوربي، حيث اشتكت من التحريض المستمر ضدها، وقالت إن خصومها جعلوها كبش فداء لوطنها، مشيرة إلى أن الكثير من الصحافيين أصبحوا يميلون إلى الصمت نتيجة ما حدث لها. بيد أن الفريق الصحافي الاستقصائي لم يقف عند الأشخاص الثلاثة الذين نفذوا جريمة قتل “دافني”، من منطلق أن فعلهم الشنيع كان بتفويض من آخرين، وإنما طرقوا أبواب مسؤولي الحزب الحاكم في مالطا، لعلهم يعثرون لديهم على الأجوبة. لكن المسؤولين المعنيين، شأن السياسيين في كل مكان وزمان، التفّوا على الحقيقة بالقول: “إنهم يحاربون الأفكار بالأفكار ولا يحاربونها بالرصاص”! الفريق الصحافي حاصر مسؤولين مالطيين وآخرين أوربيين بأسئلة محرجة حول ملفات الفساد المالي التي كانت تعرّيها “دافني”، أيقونة الصحافة (كما لُقّبت جماهيريا)، لكنْ بدون جدوى.
يبقى ثمة سؤال يلح على الذهن: هل يمكن لمنظمة “قصص ممنوعة” أن تفتح ملفات مشابهة في عالمنا العربي؟ إذا حصل ذلك فأكيد أنهم سيدخلون الدائرة دون أن يخرجوا منها، وإن خرجوا فسيخرجون أطرافا متفرقة، يفعل فيها المنشار فعلته الشنيعة سيئة الذكر!

ذات صلة