حينما يتحلق المغاربة حول التلفاز عشية كل يوم، فإنهم متيقنون أنهم سيشاهدونه هو… لا غيره: معالي وزير البر والبحر والجو… المقيم العام في نشرات الأخبار.
أيهما يدلل الآخر؟
هل التلفزيون هو الذي يدلّـله؟
أم هو مَن يدلل التلفزيون؟
لا تكاد أية نشرة إخبارية ـ تقريبا ـ تخلو من طلعته البهية: يدشن، يفتتح، يرأس، يوقّع، يخطُب… ويعطي التصريحات التلفزيونية، يقول أي كلام، ولا كلام، ويحرص على أن تصوّره الكاميرا وهو يقف بمحاذاة ضيفه المتحدث إلى التلفزيون.
كل شيء ـ في عُرفه ـ يصير خبرًا، يستحق أن يُبثّ على الشاشة، ولو كان “عطسة”، فإذا عطس يقول له التلفزيون: الحمد لله!
لعل معاليه مقتنع تمام الاقتناع بالقاعدة الذهبية في الإعلام وبالأحرى في الإعلان، التي تفيد أن تكرار بث مادة معينة يجعل العين تستأنس بها وتخلق نوعا من الألفة معها.
كيف لا، وهو الحاصل على إقامة دائمة في نشرات الأخبار، رغم أنف الجميع؟!
ربما يريد أن يوحي للعالم أنه وحده من بين ما يقارب الأربعين وزيرا، مَن لا يتوقف عن العمل أناء الليل وأطراف النهار.
أما باقي الوزراء فليشربوا البحر، وليناضلوا من أجل تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص للظفر بحقهم ليس فقط في ولوج التلفزيون، بل في التردد باستمرار ضمن فقراته الإخبارية.
ومن يدري، فقد نحتاج ـ يوما ـ كمُشاهدين إلى توقيع عريضة، نطالب فيها بحق باقي عناصر التشكيلة الحكومية في الأضواء التلفزيونية البهيجة التي لا تنطفئ أبدا! (أما حق المعارضة، فذلك مطلب بعيد المنال). وإن كنا مقتنعين أن ما سيتفوه به معظم أعضاء الحكومة مجرد أسطوانة صدئة ومنخورة، مثلما يفعل كبيرهم الذي علّمهم !
احتكار الأدوار التلفزيونية!
ومن المقيمين الدائمين في التلفزيون أيضا طائفة من الممثلين والممثلات الذين يتكررون في المسلسلات والأفلام والبرامج وحتى الإعلانات التلفزيونية… حتى ليخيل للمرء أن الساحة الفنية صارت فارغة من الوجوه والأسماء، ولم يعد سوى هؤلاء المستعدّين لأداء أي دور، حتى ولو كان لا يناسب مقاسهم… المهم هو الهجوم على المُشاهد في عقر داره.
يكاد يجزم المرء أن وراء هذه العملية علاقات الزبونية والشللية والمصالح المتبادلة. وإلا، كيف يمكن تفسير غياب العديد من الفنانين الذين يتجاهلهم المخرجون والمنتجون عن سبق إصرار وترصد؟
من قبل، كان الحديث ينصبّ على كون المشاركة في الأعمال التلفزيونية تقتصر على الفنانات والفنانين القاطنين في محور الرباط الدار البيضاء، وتتعدّاه أحيانا إلى مدينة مراكش، في حين يجري تغييب الأسماء القاطنة في مدن أخرى بعيدة مثل طنجة ووجدة وأكادير والعيون، اقتداءً بالمَثل “بعيد عن العين بعيد عن القلب”. ولكن، اليوم، صار التهميش يشمل حتى بعض الفنانين المقيمين في الرباط والدار البيضاء.
المسألة تتعلق أولا بالحق في العمل، وتتعلق ثانيا بحق المشاهد في تنويع الوجوه الفنية وعدم الاقتصار على وجوه محددة.
هذه مهمة موكولة للنقابات الفنية التي تراعي المصلحة العامة أولا قبل المصلحة الخاصة.
وهي أيضا مهمة القائمين على التلفزيون الذين يُفترض فيهم أن يشترطوا على المخرجين والمنتجين عدم تكرار الأسماء نفسها، والانتباه إلى أولئك الذين يمنعهم التعفف وعزة النفس من اقتراح أسمائهم أو “استجداء” أدوار ما في مسلسلات وأفلام تلفزيونية.
20 فبراير… بين الشعار والواقع!
من مكر الصدف أنه، بينما كان البرلمان المغربي يحتضن يوم الأربعاء 20 شباط/ فبراير منتدى دوليا حول “الحماية الاجتماعية”، كان شارع محمد الخامس المقابل للبرلمان فضاء لمشهد عملي يعاكس الأفكار والشعارات البراقة التي كانت تتردد على لسان المسؤولين المشاركين في المنتدى المذكور، حيث قوبلت الوقفات الاحتجاجية التي شارك فيها العديد من رجال ونساء التعليم بمناسبة ذكرى الحراك الاجتماعي بالهراوات وخراطيم المياه، وخلّـفت استهجانا لهذا السلوك الذي تقابل به الحكومةُ الاحتجاجَ الحضاري السلمي.
لقد نسف ذلك المشهد الخطاب الرسمي الذي تردد تحت قبة مجلس المستشارين، وتبيّن أن ثمة بونا شاسعا بين الشعار والواقع.
والمثير في المسألة أيضا أنه، بينما ركّز التلفزيون في تغطيته الإخبارية على منتدى “الحماية الاجتماعية”، تجاهل المسيرة السلمية وما وقع فيها لبعض المتظاهرين من تعنيف واعتداء جسدي من لدن قوات أمن. وترَك المواقع الإلكترونية ومنتديات التواصل الاجتماعي تقوم بذلك، مجسّدة حقّ المواطن في الخبر والمعلومة وفي التعليق على واقعة جديدة تنضاف إلى الوقائع المخجلة في تاريخ المغرب المعاصر!
التطبيع مع الابتذال!
شيئا فشيئا، أصبح التلفزيون يتخلّى عن أدواره التربوية والتوجيهية، وينساق مع سلوك الشارع وقاموسه بتمظهراته السلبية، وآية ذلك العديد من الكلمات السوقية التي صارت منتشرة في العديد من المسلسلات والأفلام والأغاني وبرامج “توك شو” والبرامج الكوميدية وغيرها… في أفق تحقيق نوع من “التطبيع” بين المشاهد وبين البذاءة والإسفاف والابتذال.
ثمّة هجمة شرسة على قيم المجتمع وعلى تماسك الأسرة بذريعة الانفتاح والحداثة ومسايرة الموجة. والحال أن الحداثة تجسيد للارتقاء في الفكر والذوق واللغة، وليست رديفا لتحطيم كل ما هو جميل وصافٍ ونبيل.
الطاهر الطويل