ثمة خيط رفيع بين حق المواطن في الخبر والمعلومة وبين التهويل وإعطاء الخبر حجما أكبر منه، خاصة حينما تعمد وسائل الإعلام إلى التركيز على الموضوع نفسه وجعله شغلها الشاغل أناء الليل وأطراف النهار، مما قد ينتج عن بث الخبر أو المعلومة مفعول عكسي تماما، لأن “الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده”، كما يقال.
حسنًا فعل التلفزيون المغربي، عندما تفادى أخيرًا التركيز على “أنفلونزا الخنازير” التي ترتعد لها الفرائص، وتُدخل الرعب في قلوب الناس. لقد كانت الأُسر تتسمر أمام التلفزيون ـ وكأن على رؤوس أفرادها الطير ـ منتظرة الجديد الذي ستحمله لها نشرات الأخبار: هل زاد عدد المصابين بهذا المرض اللعين؟ وهل توفي أشخاص آخرون متأثرين به؟ ألم يصل اللقاح بعد إلى الصيدليات والمراكز الصحية؟ تساؤلات وغيرها تأكّد معها بالملموس أن الحكومة خلقت جوّا من الترويع في أوساط المواطنين، وأمسى كل من أُصيب بنزلة برد خفيفة يخشى على نفسه من هجوم العدوى، كما يتفادى الآخرون الاحتكاك به في وسائل النقل والإدارات والأماكن العامة… وغَدَا الآباء يتخوّفون من إرسال فلذات كبدهم إلى المدارس.
تؤكد الدراسات الطبية أن الجانب النفسي يلعب دورا أساسيا في تفاقم مرض ما أو المعافاة منه أو على الأقل التخفيف منه؛ فكيف يُرجى شفاء المرضى وسلامة الأصحّاء، والحكومة حوّلت أيامهم هذه إلى ما يشبه فيلما “هيتشكوكيا”؟ ولا يقتصر الأمر على نشرات الأخبار فحسب، بل حتى بعض الإعلانات التوجيهية التي يقدّمها صاحب “استهلك بلا ما تهلك”، تساهم في تهويل الموضوع، بالحديث المتكرر عن ضرورة التلقيح لتفادي الإصابة بالعدوى.
ربما انتبه التلفزيون المغربي إلى أن استمرار حالة الترويع التي تقوم بها الحكومة من شأنه أن تكون له تأثيرات عكسية على صحة المواطنين وعلى حركية الاقتصاد المحلي وعلى السير العام للإدارات العامة، فضلا عن انعكاساته المباشرة على السياحة واستقبال الوافدين الأجانب. بمعنى آخر: إن البلاد قد تسير نحو وضعية أزمة إذا بقي “عنف الصورة” متواصلا من خلال الإكثار من قصص خبرية “هيتشكوكية” لـ”أنفلونزا الخنازير”. بيد أن ثمة “أنفلونزا” أخطر منها هي الأزمة الاجتماعية والاقتصادية التي ورطت الحكومة نفسها فيها، بإصرارها على الإجهاز على القدرة الشرائية للمواطنين والزيادة في الضرائب والسعي نحو إلغاء مجانية التعليم وتردي الخدمات الصحية وتفشي البطالة وهلم جرا… فجاءها الجواب بالإعلان عن تنظيم إضراب وطني عام في 20 شباط/ فبراير، تزامنا مع الذكرى الثامنة للحراك الشعبي في المغرب.
وزارة الأوقاف وهداياها للحجاج!
ولأن الزيادة فعل محبّب لدى الحكومة المغربية، بدءا من الزيادة في الساعة، مرورا بالزيادة في أثمان المواد الاستهلاكية والضرائب وغيرها… فقد أطلّ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، عبر شاشة التلفزيون، ليقدم إلى المغاربة هدية من نوع خاص، وليزفّ إليهم خبر الزيادة في مصاريف الحج ابتداء من هذه السنة. وبرّر معاليه ذلك القرار بزيادة الخدمات في السعودية وارتفاع سعر صرف الريال السعودي وتكاليف تلقيح الحجاج.
وظهر معاليه يرأس اللجنة المكلفة بالحج التي أعدّت بلاغا حول أعمالها وقراراتها، قرأه مذيع النشرة بما يُفترض من الحزم والجدية والهيبة. لكن الطريف في الموضوع أن البلاغ تحدث عن شروط أداء تلك الشعيرة الدينية، ومن بينها “الاستطاعة البدنية والعقلية”. الاستطاعة البدنية فهمناها، وهي منطقية. ولكن، ما الداعي إلى التنصيص على السلامة العقلية، وهي تحصيل حاصل؟ هل سبق لحمقى أو مجانين أو فاقدي الذاكرة أن أفلتوا من مراقبة شرطة المطارات المغربية والسعودية، ثم أدوا مناسك الحج بطريقتهم الخاصة، ولم يُكشف فقدانهم للعقل إلا بعدما كانوا يرجمون الشيطان مثلا؟ ومن وضع هذا الشرط المنطقي جدا: هل هم المسؤولون المغاربة؟ أم حُماة بيت الله الحرام؟ وهل سيكون الحجاج مطالبين بأن يحملوا معهم شهادات طبية تثبت سلامتهم العقلية؟ أم سيلجأ موظفو المطارات السعودية إلى اعتماد جهاز لإثبات ذلك، يخضع له كل حاج قبل أن يلج الأراضي المطهّرة؟
أحمد موسى بين قطر واليابان!
والواقع أن اشتراط السلامة العقلية ليس للحج فقط، وإنما أيضا لممارسة السياسة وقيادة الشعوب. وهي أيضا شرط أساس للظهور على الشاشة، ينبغي أن يطبّق على عدد من الإعلاميين المصريين الذين جعلوا من برامج “توك شو” التلفزيونية جلسات للهذيان وإطلاق الكلام على عواهنه. كل ذلك، لكونهم يأتمرون بأمر من يضخ قنواتهم بالمال، فهم بين المدح والهجاء منقادون لأوامر أسيادهم، وتحديدا لكبيرهم الذي علمهم السحر، فصاروا يلهجون بمديحه صباح مساء.
منذ أيام، ظهر أحمد موسى على قناة “صدى البلد” وهو يرغي ويزبد، لا لشيء سوى لكون المنتخب القطري تأهل إلى المباراة النهائية لكرة القدم برسم كأس آسيا، وقال موسى في قطر ما لم يقل مالك في الخمر، وأخرجها من الجسم العربي، وصاح أنه سيشجع منتخب اليابان متوسلا الجميع إلى أن يحذوا حذوه، ولم يبق له غير أن يرفع كفيه للسماء سائلا الفوز للمنتخب الياباني… ولذلك، لم يُستجب لأمنيته الأقرب إلى الرجاء، لأن الله أعلم بما تخفي الصدور.
أكيد أن الكثيرين في تلك الليلة لم يناموا من شدة الفرح، سواء كانوا قطريين أم عربا ممن رأوا في فوز المنتخب القطري فوزا لكل العرب، بغض النظر عن الخلافات السياسية والحسابات الضيقة. وحده، ذلك الإعلامي المسكين لم ينم من شدة الحسرة، على ما يبدو. ترى، بأية حال قضى ليلته؟
في مصر إعلاميون أكفاء ذوو مواقف مشرفة، ولا ينساقون للأهواء والأمزجة، لأن أرض الكنانة بمثابة مدرسة عريقة للصحافة العربية. أما الاستثناءات المعتّمة فإنها لا يمكن أن تحجب تلك القاعدة الذهبية.
إنهم يفضلون السلع المزورة!
من حين لآخر، يقدم برنامج “45 دقيقة” في التلفزيون المغربي فلتات تستحق المشاهدة، إما لجُرأة الموضوع أو لجدّته أو لطرافته. قبل بضعة أيام، خصص البرنامج حلقته الجديدة لموضوع: تزوير العلامات التجارية لماركات ملابس عالمية شهيرة.
المثير في الموضوع أن “أبطال” هذا التزوير تحدثوا إلى البرنامج بوجوه مكشوفة: أرباب مصانع، تجار بالجملة وباعة بالتقسيط في أسواق مدينة الدار البيضاء، أصحاب شاحنات لنقل البضائع… مُبرّرهم في اللجوء إلى تزوير العلامات التجارية للملابس، هو جعل الماركات المعروفة وباهظة الثمن في متناول الناس البسطاء وفي مستوى قدرتهم الشرائية. فاللباس الرياضي الذي يباع ـ مثلا ـ بأكثر من مائة دولار يمكن أن تشتريه بأقل من عشرين دولار في الدار البيضاء… طبعا، مع تطابق تام في العلامة البصرية “المزورة”، واختلاف كبير في الجودة!
الطاهر الطويل