من وحي موقعة “الترجي” التونسي ومجزرة “عسكر” السودان!

تنفس المواطنون العرب الصعداء بعد إسدال الستار على المَشاهد الكوميدية السخيفة التي عجّت بها التلفزيونات المحلية خلال رمضان الكريم، ولكن ثمة مَشاهد واقعية لم تُمْحَ بعد من ذاكرة الناس، لما تحمله من ألم ومرارة.
من المؤسف حقا أن تتحول مباراة في كرة القدم إلى مجال لإثارة البغضاء والعصبيات والفتن بين الشعوب، كما لو أن الأمر يتعلق بمواجهة عسكرية بين بلدين عدوين، وليس بنشاط رياضي بين فريقين ينتميان لقُطرين شقيقين، حيث يُفترض أن يتغلب منطق السلام والقواسم المشتركة على منطق النصر والهزيمة، وما قد يفرزه من غنائم مادية أو معنوية للفريق الفائز، وخسارات شتى للفريق غير المحظوظ.
تلك حال المواجهة الكُروية التي حدثت بين فريقي “الوداد” المغربي و”الترجي” التونسي، حيث انسحب الفريق الأول من أرضية الملعب، احتجاجًا على عطل أصاب جهاز المساعدة التقنية بالفيديو (فار) VAR، ومُنح لقب بطولة الأندية الإفريقية للفريق الثاني. وإذا كانت هذه المباراة شدّت أنفاس متتبعيها، سواء في مدرجات الملعب أو عبر شاشات التلفزيون، فإنها أثارت نقاشات لم تنته بعد، لاسيما بعد صدور قرار جديد لاتحاد كرة القدم الإفريقي يقضي بإعادة اللعب بين الفريقين المغربي والتونسي.
وبعيدًا عن النقاشات التقنية والقانونية المرتبطة بنتيجة مباراة “الترجي” و”الوداد”، ودون الاصطفاف إلى جانب هذا الطرف أو ذاك، يمكن القول إن الذين يتحدثون عن احتمال وجود فساد في أوساط الأجهزة الرياضية الإفريقية أو على صعيد التحكيم الإفريقي، يهملون حقيقة أن ممارسة هذه اللعبة وإدارة شؤونها ما هي إلا انعكاس للفساد المستشري في معظم الأنظمة الإفريقية والبلدان المتخلفة عموما، على مختلف الأصعدة، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وإداريًا…
شيء متوقع أن يحصل التلاعب في الرياضة، وشيء متوقع كذلك أن تكون هذه الأخيرة ورقة في صراع المصالح، ما دامت الكثير من الأنظمة السياسية غير قائمة على شرعية ديمقراطية واستحقاق انتخابي، وإنما رأسمالها هو الاستبداد في الحكم، واستغلال خيرات الشعوب، وقمع الحريات، والتبعية للرأسمالية الغربية المتوحشة… كيف نطالب بمعايير الشفافية والمصداقية والعدالة في مباريات كرة القدم، وهي غائبة على صعيد الممارسة السياسية والإدارية وغيرها؟
من هنا، يحرص الساسة ومستشاروهم على جعل كرة القدم بمثابة مخدّر لإلهاء الشعوب عن واقعها ومشكلاتها، ولإذكاء النعرات والأحقاد، حيث تغدو المباراة بمثابة حرب حقيقية ذات انعكاسات وخيمة على سلامة الناس وممتلكاتهم وعلى المنشآت العامة والخاصة… والذين تابعوا مباراة “الترجي” و”الوداد” منذ بضعة أيام، وقفوا على هول التضخيم الإعلامي الذي رافقه استنفار أمني شديد، وشعارات قوية داخل الملعب وخارجه، وترددت أيضا عبر الميكروفونات؛ وضعية كانت تنذر بتحوّل الملعب ومحطيه إلى ساحة وغى. فلا عجب أن وقعت إصابات متعددة في صفوف الجمهور واللاعبين من الفريق “الضيف”، علاوة على تلقي هؤلاء تهديدات نارية من لدن الجمهور “المضيف”، حسب مصادر عدة.
هكذا، إذن، تُسَخّرُ كرة القدم أداة في يد الساسة المتحكمين في الدول المتخلفة، بها يُشعلون فتيل الشنآن بين الشعوب، مُستغلّين تأثير القنوات التلفزيونية ووسائط التواصل الاجتماعي، ويشغلون تلك الشعوب عن المطالبة بحقوقها المشروعة في العدالة والديمقراطية والحرية والعيش الكريم.

من “ليلة القدر” إلى “ليلة الغدر”!

وإذا كان تعطل جهاز المساعدة التقنية بالفيديو (فار) سببًا في غياب حجّة مادية ملموسة يمكن الرجوع إليها للاحتكام حول قرار ما، وهو ما أدى إلى انسحاب الفريق المغربي خلال المباراة المشار إليها، فإن غياب كاميرا التلفزيون شجّع الجيش السوداني على ارتكاب جريمته النكراء في حق المدنيين العزل ببرودة دم، لا لشيء سوى لمطالبتهم بالديمقراطية والحقوق السياسية. (أليس الحكم الاستبدادي هو كذلك مجرد “لعبة” بيد المجانين، لكنها لعبة أشد قسوة من كرة القدم؟)
قبل التدخل الأمني العنيف، كان كل شيء مُرتّـبًا مسبقًا: عمد المجلس العسكري في السودان إلى إغلاق مكتب قناة “الجزيرة” الإخبارية، ومنع المراسلين الأجانب من مغادرة الفنادق ومقرات إقاماتهم. حينها أدرك الجميع أن الأسوأ قادم، تمامًا مثلما حدث في مصر منذ ست سنوات، عندما تدخل عسكر السيسي لفض اعتصام رابعة العدوية، حيث أُعطيت الأوامر لحجب الكاميرات، فنفّذ الوعيد، وانتهى الأمر بين قتيل وجريح ومعتقل…
كان الرئيس السوداني المخلوع عمر البشير هدد المتظاهرين بتطبيق “فتوى” تبيح له إبادة ثلث الشعب من أجل استمرار الحكم، لكنّ الفتوى ظلت معلقة إلى أن جاء المجلس العسكري فسارع بتطبيقها، منتشيًا بسلطة كرسي الحكم وبالقبضة الحديدية ومنطق القوة، إذ حوّل “ليلة القدر” إلى “ليلة “الغدر”، وفق العبارة التي يتناقلها رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وسالت دماء زكية غزيرة في مكان اعتصام المتظاهرين… وعشنا حتى رأينا جيشا مسلحا يقتل شعبا مسالما، لا لشيء سوى لمطالبته بحكم مدني ديمقراطي!
والظاهر أن رئيس المجلس العسكري السوداني، عبد الفتاح البرهان، تلقى الدرس الأول من “سَـمِـيِّـه” عبد الفتاح السيسي، حينما التقاه في القاهرة، وأدى له تحية عسكرية أثارت سخرية مغرّدين على شبكات التواصل الاجتماعي، ووصل صداها إلى قناة “بي بي سي” البريطانية في نسختها العربية.
ملاحظة جديرة بالتأمل: كل الديكتاتوريين والانقلابيين العرب يزورون عبد الفتاح السيسي. فعلها الانقلابي الليبي خليفة حفتر، وفعلها الانقلابي السوداني عبد الفتاح البرهان. لعل السيسي مُلهمهم وعرّابهم الكبير، وإن كان صغيرا في عيون الأمريكان والإسرائيليين!

السيسي… مفتي مصر رغم أنف الأزهر!

ها قد أوصلنا الحديث إلى عبد الفتاح السيسي، وإن كنا نحاول أن ننسى سيرته ولو مؤقتا، ولكنه يذكّرنا كل مرة ببهلوانياته وشطحاته، آخرها اكتساحه القنوات التلفزيونية المصرية منذ أيام، خلال احتفالية ليلة القدر المباركة، إذ سعى إلى الظهور بمظهر الشيخ الواعظ الذي يُفتي في الدين الإسلامي، بحضور شيخ الأزهر وجمهور غفير من العلماء والعسكر والمسؤولين وضيوف مصر، وطفق السيسي يقدّم نظريات وتحليلات حول الإسلام والتسامح وحوار الأديان، بشكل يذكّرنا بالزعيم الليبي الراحل معمر القذافي. وأخذته العزة بالإثم، فصار يزكّي نفسه ويمدحها، حيث قال للمستمعين ـ مثلا ـ إنه طيلة حُكمه لم يتفوه بلفظ قبيح واحد سواء في حق عدو أو حبيب، ودعاهم إلى التأكد من ذلك في كل خطبه وكلماته!
كان السيسي يرتجل كلاما فضفاضا، وسط تصفيقات الحاضرين، وينتقل من موضوع إلى آخر دون أن يكمل أي جملة، بشكل أقرب إلى الهذيان أو التداعي الحر. ثم شرع في “تهجي” ورقة مكتوبة أُعدّتْ له، فارتكب أثناء القراءة مجازر لغوية فظيعة، وواصل كلامه الإنشائي الواعظ عن الرحمة والبر، وعن الوفاء بالحقوق والواجبات، ليصل إلى اللازمة التي تتكرر في معظم أحاديثه والمتعلقة بالتطرف الذي يظهر بلبوس ديني.
الطريف في الأمر أن عبد الفتاح السيسي قال في خطبته العصماء: “ما أحوجنا الى تطبيق قيم الإسلام العظيمة وتحويلها إلى واقع وسلوك عملي”. ولكنه لم يجد من يقول له: يا ليتنا نرى تلك القيم مجسدة في سلوكك وتعاملك أنت أولاً مع الشعب بمختلف أطيافه! ألست قدوتنا ومثالنا الأكبر يا شيخ؟!
الطاهر الطويل

ذات صلة