تقوم دار النشر المغربية “سليكي إخوان” التي تأسست في يناير 1995 في طنجة المغربية بنهج استراتيجية متطورة في مجال النشر، جعلتها تحظى بتقدير العديد من المؤلفين المغاربة والأجانب ومنظمي معارض الكتاب عبر العالم. وتتميز الكتب التي تصدرها بهوية بصرية مميزة، سواء على مستوى شكل الإصدارات أو تصميم الأغلفة أو نوعية الورق… الخ.
الاستقلالية الإدارية والانفتاح على مختلف الثقافات والإبداعات وروح الاكتشاف مبادئ يرتكز عليها عمل هذه الدار، بكثير من الاحترافية.
التقينا مسؤول دار نشر “سليكي إخوان” المغربية، طارق سليكي، وأجرينا معه الحوار التالي:
□ ما هي الخصوصية التي حرصتم على التميز بها في مجال النشر عند إنشاء مؤسستكم؟ وهل حققتم بعض عناصرها؟
ـ لعل البداية ترجع إلى أكثر من خمس وعشرين سنة، عندما قررنا اقتناء أول حاسوب للاشتغال عليه. وبعد ذلك، ظهرت أولى الإمكانيات التي أتاحتها البرامج لإخراج البحوث والجرائد المحلية، فكانت هذه هي أولى البدايات، فقررنا أن ننشئ مؤسسة تشتغل في مجال الإعلاميات والطباعة والنشر، الشيء الذي جعل العلاقات منحصرة مع الباحثين والإعلاميين والمنشغلين بهمّ الثقافة والإعلام. ومن هنا، بدأت الرحلة، لندخل عالما أسميناه بعد التأسيس مباشرة “الثالوث الذي سيشغلنا ونشتغل عليه وبه”، هو الإعلاميات والطباعة ثم النشر، هذا الأخير هو الذي سيصبح مجال الاهتمام رقم واحد. لذلك، راهنا على جودة الأعمال من حيث جودتها على مستوى الإخراج والحرف وبطبيعة الأمر البحث عن الجودة على مستوى المضامين.
□ ما طبيعة الكتب التي يقبل عليها القارئ العربي اليوم؟
ـ سؤال يصعب الإجابة عليه، لأن المسألة متعلقة بالمكان، وإن كان الكتاب الديني يتصدر القائمة بدون منازع. تبقى، بشكل عام، كتب الدراسات والتاريخ والفلسفة في المقدمة، وبعد ذلك يأتي الإبداع.
أستطيع أن أقول لك إن الكتب المتخصصة، سواء في القانون أو التاريخ أو الكتاب الأكاديمي النفعي تأتي في المقدمة، لأن أغلب القراء يقتنون الكتب التي يمكن أن تضيف لهم شيئا في مجال اختصاصهم.
□ برأيكم، هل تتقدم نسبة القراءة أم تتراجع في المغرب خصوصا وفي العالم العربي عموما؟
ـ الجميع يتكلم عن تراجع القراءة في كل العالم العربي، هي فعلا لا ترقى إلى المستوى المطلوب، ولكن تزايد عدد دور النشر، بل وتزايد حضورها في المعارض العربية والدولية لا تعني إلا شيئا واحدا هو أن القارئ موجود والطلب على الكتاب هو كذلك موجود، ولكن المشكلة الحقيقية لا تكمن في ندرة القارئ، ولكن في التوزيع، فالكتاب للأسف لا يصل إلى مستهلكه إلا مناسباتيا، وهذا هو مكمن الخلل. وعوض نشر والتطبيع مع خطاب العدمية والسلبية ينبغي الوقوف على الإعاقات التي تقف في وجه الكتاب، والعمل على فتح الحدود بين الدول لتسمح للمعرفة أن تجوب الأراضي العربية، إذ نتوفر على أكبر سوق عالميا، نفس اللغة ونفس الدين ونتقاسم أرضا مفتوحة من المحيط إلى الخليج، لنا ما يجمعنا أكثر ما يفرقنا.
□ في هذا السياق، أي دور للمعارض العربية والدولية في التعريف بالكتاب وترويجه؟
ـ حسب التجربة، القارئ باللغة العربية موجود في كل بقاع الدنيا، ولا أعني بالضرورة القارئ العربي، والمستقبل ينبغي التأسيس له. والذي لا يجازف بشيء لا يمكن أن يربح أي شيء. وكما أقول دائما إن طموحنا في الدار، وربما يشاركني في هذا العديد من دور النشر، إن الكتاب المغربي لا ينبغي أن تغيب عنه الشمس، وهذا يتطلب كثيرا من الحب والشغف والإيمان بمقولة من سار على الدرب وصل.
في أوروبا الغربية والشرقية، وفي الصين وكندا، وفي كل الدنيا، الناس متشبعة بلغتها ومؤمنة بها وتتطور بها ومن خلالها، هذه عقدة العربي، يظل طول الوقت يعبر عن إعجازها وإمكاناتتها المذهلة، ويخجل من جهله للغات أخرى أو يتبجح بها على حساب اللغة الأم.
دعنا نركب هذا التحدي الجميل ولنتمسك بأن الأرض كروية الشكل، مهما حاول المتشككون.
□ وماذا عن وسائل الإعلام المختلفة في هذا المجال؟
ـ للإعلام القدرة على التأثير في الوعي العام وتصورات وأفكار الأفراد، والوحيد الذي يدخل البيوت دون استئذان، ومن ثم فمن واجبها التعريف بالمنتج الفكري المغربي. الإعلام العمومي لكلّ المغاربة، فليكن إعلاما محَرِّرا، منقذا، مكوِّنا صانعا للجمال، بدل التطبيع طوال ساعات البث مع الغباء ومع العدمية والسلبية المتجذرة في المجتمع المغربي.
ووسائل الإعلام هي النافذة التي يطلّ العالم علينا من خلالها، فلتكن إذن على الأقل منصفة، إذ أحيانا أشك أنها ستصمد في المستقبل، لأنها لم تعد تخاطب المغاربة ولا حتى إعطاء صورة منيرة عن المغرب. وسائل الإعلام مازالت بعيدة عن ثقافة الكتاب وشحيحة في التعاطي معه، ورغم وجود بعض البرامج المخصصة لهذه الثقافة على ندرتها، فإنها تبث في ساعات غير لائقة وغير مناسبة، وصيغتها يجب إعادة النظر فيها. الثقافة عماد المجتمع والطريق المضمون للمغرب المأمول، وتبقى الصحافة هي ما نستطيع أن نعوّل عليه على الأقل في الوقت الراهن.
وحتى نحن ــ الناشرين ــ نتحمل جزءا من المسؤولية، إذ لا نهتم بالتواصل بالشكل المطلوب للإعلان عن كل جديد يصدر، ونأمل أن تتغير عقليتنا وآليات اشتغالنا ودق كل الأبواب التي يمكن أن تسمح لنا ولوج المهتمين أينما كانوا.
□ من خلال تجربتكم في ميدان النشر، هل يمكن أن تبسطوا لنا المعايير المطلوبة للثقة المتبادلة بين المؤلف والناشر؟
ـ الناشر هو الركيزة الاساسية في عملية نشر الكتاب، وهو الوحيد الذي يتدخل في الجميع من العنوان إلى الغلاف الرابع، مرورا بالمحتوى وبالإخراج والطبع إلى التسويق، وصولا عند القارئ.
هناك العديد من الكتاب مَن ينعتون الناشرين بأنهم تجار، وهم في ذلك محقون، وليس انتقاصا؛ فمن المفروض أن دار النشر مقاولة تجارية كسائر المقاولات، تختلف عنهم في نوعية المنتَج؛ المشكلة كل المشكلة هو أن يكون الكاتب تاجرا، حتى صار الكاتب يتبجح ويتذمر في الآن نفسه عن تحمله عبء مصاريف الطبع وتوزيع العمل. ربما بدأت بوادر استيعاب مهنة الناشر الذي لولاه سيبقى الكِتاب سجين رفّ صاحبه، ولن يتجاوز حدود الشارع الذي يقطن فيه ولن يتجاوز حدود جغرافيا المعارف.
بين الكاتب والقارئ مسافات لا يمكن قطعها إلا الذي يؤمن بالمغامرة، المحسوبة طبعا، بآلات حاسبة ومذكّرة مليئة باستراتيجيات ومخططات. ومن هنا، أقول إن الذي يستهزئ من كون أن الناشر لا ينبغي أن يكون تجاريا، ينبغي له أن يعيد النظر في كل المسلّمات التي يعتقد فيها.
وفي الأخير، أعتقد أن الناشر شمعة تحترق ليحيى الكاتب والقارئ. الرهان الأول الذي ينبغي للكاتب والمبدع أن يراهن عليه هو الانتشار، أن يوصل أفكاره ويشاركها مع قراء العالم، وهذا لن يتحقق إلا بالإيمان أن لكل مجاله. أن يثق الكاتب في الناشر وأن تكون العلاقة مبنية على المهنية بدل العواطف التي تكاد تخرب كل الميادين، تغييب العقل والمهنية والمنطق. أن يعيش الكاتب مع الناس ويسيطر على السوداوية غير المنتجة. الكاتب نبض المجتمع وروحه، خُلق ليواجه بياض الورق والأفكار في العتمات، فالاختلاف والارتباك بين الكاتب والناشر هو سر نجاح هذا الزواج الذي ينتج قارئا نموذجيا دائما يذكرهُما أينما حل وارتحل.
□ أهمّ كتاب حظي بنسبة عالية من المبيعات لديكم طيلة مسيرتكم في النشر؟
ـ لعل الأمر عندنا يتعلق بكتابين باللغة الفرنسية، عبارة عن جولة أدبية في طنجة من تأليف الكاتب الفرنسي المقيم في هذه المدينة فيليب غيغي بولون Philippe Guiguet Bologne ، الجزء الأول بعنوان “السوق الداخلي: جولة في المدينة القديمة لطنجة” ، والجزء الثاني بعنوان “أشقار: جولة في طنجة من مارشان إلى رأس سبارتيل”
□ هل من معلومات عن هذين الكتابين؟
ـ الكتابان اللذان حظيا بثلاث طبعات يحكيان عن رجالات الأدب والفن الذين مروا من مدينة طنجة هذه المدينة الأسطورية بطريقة شاعرية، وفي الوقت نفسه هذان العملان يعجان بالمعلومات التاريخية، وأنا أعتز وفخور بهما.
في الكتاب الأول Socco : Une promenade dans la vieille ville de Tanger يدعو المؤلف القارئ إلى زيارة حميمية لمدينة طنجة القديمة ومحيطها المباشر، حيث يجري اكتشاف المعالم الأثرية للمدينة والمنازل الخاصة الكبيرة، كما يتم التعرف على الفنانين والشخصيات الاجتماعية من الأمس واليوم، ويكشف الكتاب عن الزوايا الساحرة، بطريقة تعكس شغف المؤلف وعواطفه تجاه المدينة التي سكنته منذ حوالي ربع قرن.
أما الكتاب الثاني Achakkar : Une promenade à Tanger du Marchan à Cap Spartel فهو تحفيز للقارئ على مواصلة الرحلة الاستكشافية لمدينة طنجة، انطلاقا من هضبة “مارشان” خارج المدينة القديمة، وصولا إلى ضريح “سيدي قاسم” في “رأس سبارتيل”، مرورا بـ”الداردب” والمسالك الجبلية المختلفة. وخلال هذه الرحلة، يستحضر المؤلف أصدقاءه وشخصيات اجتماعية من “طنجة الدولية” ووجوها عبقة بالتاريخ والذاكرة، مثل صيادي “الحافة” وبستانيي “سيدي المصمودي”. إنها زيارة مفعمة بالأبعاد الإنسانية والروح العالية التي تأقلمت مع جمالية المكان على امتداد السنين.
□ حسنًا، الاستثمار في الكتاب والثقافة عموما، هل يتعلق الأمر بمغامرة مالية غير معروفة النتائج، لاسيما في البلدان العربية؟
ـ ربما هذا هو القطاع الوحيد في العالم الذي يستحق المغامرة، إذا كان الإنسان حقا يريد أن يساهم في صناعة التاريخ، وأن يكون مؤمنا بالمغامرة والنفس الطويل أن يكون الكتاب شغفه.
إنشاء دار النشر يعني أنك تساهم في صناعة التاريخ. أهم استثمار ينبغي الرهان عليه هو بناء العقول وتنمية الإنسان والاستثمار في تطوير وعيه. وأكيد أن من سار على الدرب وصل.
□ أي دور يمكن أن تلعبه ترجمة الكتب العالمية إلى العربية في إشاعة المعرفة لدى القارئ العربي؟
ـ الترجمة مهمة جدا في إيصال الثقافات بين الشعوب، وهي الجسر الذي تعبر عبره المعلومات. الترجمة من وإلى أية لغة تسمح لك بفهم وفك الشفرات وتطوير الذات وتحيين المعلومات. العرب في عصر المأمون حققوا المعجزات بفضل الترجمة، إذ تسمح بالانفتاح والخروج من نفق العزلة. فجميع الثقافات تمول مشاريع الترجمة إلى لغات أخرى، لإيمانها بأن الثقافة سلطة، ومن ثم ممارسة الهيمنة في شتى حقولها. ويجب التنبيه لأهميتها حتى يتسنى لك أن تكون فاعلا، ويكون لك صوت في هذا العالم.
أجرى الحوار: الطاهر الطويل
طارق سليكي: مشكلة الكتاب العربي تكمن في التوزيع
