عراك افريقي على الصندوق السحري!

عراك افريقي على الصندوق السحري و«ابن بطوش» في أحضان عشيرته!

الحكاية كلّها تدور حول «الصندوق السحري» الذي اعتُبِر بطلَ المَشاهد الطريفة المتداولة هذا الأسبوع، عبر القنوات التلفزيونية العالمية ومنصّات التواصل الاجتماعي. وبقدر ما بَدَا المشهد الواقعي طريفًا، بقدر ما كان مُخزيًّا، إذ جَسَّدَ الدرك الأسفل الذي نزل إليه بعض السّاسة الأفارقة الذين يُفترض فيهم أن يُعطوا المثال لشعوبهم في السلوك الحضاري، لا أن يحوّلوا فضاءات الحوار الديمقراطي إلى ساحة لفنون القتال. وكما قال حكيم الشعراء:
«إذا كان رب البيت للدف ضاربا فشيمة أهل البيت كلهم الرقص».
في الواقع، الصندوق صناديق: صندوق الخدع السحرية، وصندوق الكنوز، وصندوق الثروات، وصندوق المؤسسات العمومية والخاصة، والصندوق الأسود موطن الأسرار وغيره من الصناديق.
لكن ما يهمنا هنا هو الصندوق الذي يقود إلى كراسي الرئاسة وإلى المناصب الرفيعة. التقاليد الديمقراطية جعلته رمزًا للنزاهة والشفافية والمصداقية وتكافؤ الفرص والتنافس الشريف.
والأنظمة المتخلّفة جعلته رمزًا للخداع والاستيلاء على السلطة وبسط الهيمنة على الشعوب. وفي سبيل ذلك، تلجأ إمّا إلى سرقة صناديق الاقتراع، أو إلى تزوير محتوياتها من أوراق الانتخابات، أو شراء ذمم المصوّتين، أو تستبعد وجود تلك الصناديق، بوسائل الإغراء حينًا وبالتخويف حينًا آخر، من أجل الإعلان عن نتائج ترضي غرور الحُكّام المستبدّين.
ما حصل منذ أيام، في جنوب إفريقيا، ورصدته كاميرات القنوات العالمية، أن البعض أراد الاستيلاء على الصندوق، حتى لا يكون وسيلة لانتخاب رئيس جديد للبرلمان الإفريقي.
وانقسم البرلمانيون الأفارقة إلى فريقين: فريق يريد فرض انتقال رئاسة البرلمان وفق منطق التداول والتوازن بين المجموعات الكبرى داخل البرلمان الإفريقي، وفريق يؤكد على ضرورة اعتماد الآلية الديمقراطية في الانتخاب.
وحسب رواية المصادر، فحين أدرك ممثلو زمبابوي ـ المسنودون من طرف جنوب إفريقيا ـ أن منصب الرئاسة صار مطلبا بعيد المنال عليهم، وقاب قوسين من مرشحة مالي، حاولوا نسف أجواء الاقتراع، من خلال سرقة الصندوق، وهو ما تصدّت له النائبة البرلمانية المغربية الشابة مريم وحساة بشراسة «أسود» و«لبوءات» جبال الأطلس.

تراجيكوميديا!

المشهد كان مغرقا في «التراجيكوميديا»: برلماني في حالة هستيريا وسط قاعة المناقشات بين زملائه وزميلاته يرغي ويزبد، وينزع سترته بعنف، ويبدي استعدادا أهوج لمعركة جسدية، مستعملا رجله للركل؛ وبرلمانية تسرق صندوق الاقتراع مسنودة بآخرين، فيما تأتي برلمانية أخرى لتحاول انتزاعه منها. وهرج ومرج وسط القاعة، ونداءات عبر الميكروفون من أجل التدخل العاجل لرجال الأمن بهدف فرض الهدوء، حتى لا تتطور الوقائع إلى ما لا تحمد عقباه.
الطريف في الأمر، أنه عوض أن يتدخل جلّ البرلمانيات والبرلمانيين الأفارقة من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، كانوا يكتفون برفع هواتفهم المحمولة وتصوير ما يجري أمامهم، وكأنّ المسألة تتعلق بفرجة مُسلّية يمكن توثيقها أو نقلها على المباشر، وليست «مجزرة» سياسية تُغتالُ فيها الديمقراطية!
لم تعتد الكثير من الأنظمة الأفريقية على السلوك الديمقراطي الراقي، وعلى الحوار الهادئ ومجابهة الفكرة بالفكرة، والرأي بالرأي المضاد، والقبول بالاختلاف. ولذلك، تسارع إلى استعمال العنف في وجه المخالفين والمعارضين. سلوك يجسّده الحاكم، وأجهزته القمعية، وينتقل إلى الأحزاب السياسية والهيئات المدنية، ليصل إلى المواطنين في ما بينهم.
وحين تدعم بعض الأنظمة الإفريقية كرة القدم ـ مثلا ـ وترصد لها المال والإعلام والإعلانات، فإنها تفعل ذلك لتخلق فرجة، تتعدّى الجانب الرياضي النبيل، لتروم تغذية النعرات والأحقاد بين الجمهور، وتأليب البعض ضد البعض الآخر، فتكون النتيجة أحداث عنف قوية داخل الملاعب وخارجها.
ومن ثم، فعوض إضاعة الأموال في ضخ العصبية في نفوس الفرق الرياضية وجمهورها، كان الأولى استثمارها في زرع قيم التربية على الديمقراطية لدى الناشئة الإفريقية، حتى تجني القارة نخبة واعية متشبعة بالقيم الحضارية والإنسانية.
أما تكريس مشاهد العنف في مختلف الفضاءات، فلن يؤدي سوى إلى مزيد من التخلف وإضاعة فرص الالتحاق بركب الشعوب المتطورة.

موازين قوى!

«هذه صورة سيئة ليست فقط لمؤسسات الاتحاد الإفريقي، بل أيضا لشعوب القارة الإفريقية برمتها». يقول الموساوي العجلاوي، الخبير المغربي في الشؤون الإفريقية، أثناء استضافته من لدن قناة «سكاي نيوز عربية» للتعليق على ما حدث. صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يتشاجر فيها نواب داخل برلمانات العالم، لكنّ ما حصل في جنوب إفريقيا يسيء إلى العمل التشريعي بالقارة الإفريقية وإلى الممارسة الديمقراطية والقبول بالآخر.
ويرى الخبير المذكور أن القضية ليست قضية صندوق، أو شجار، أو ركل بعض البرلمانيين لبعضهم، بل هي قضية تحوّل حاصل في موازين القوى داخل الاتحاد الإفريقي منذ العام 2017، بين كتلتين إحداهما ناطقة بالفرنسية والأخرى ناطقة بالإنكليزية، حيث حصل تحوّل لصالح الناطقين باللغة الفرنسية.
الاتحاد الإفريقي، كما يوضح الموساوي، يطلب عادة من ممثلي التجمعات الخمسة الممثلة داخل البرلمان اختيار ممثليهم للترشح. وفي نيسان/ أبريل المنصرم، اجتمعت مجموعة دول غرب إفريقيا الخمس عشرة، ورشحت البرلمانية المالية عايشتو سيسي لرئاسة برلمان عموم إفريقيا؛ في حين تريد المجموعة الأنكلوفونية أن يكون الرئيس منها… ومع وصول الفرقاء إلى النفق المسدود، جرى تعليق أطوار الانتخابات في البرلمان الإفريقي حتى إشعار لاحق غير محدد!

زعيم من ورق!

مشهد آخر، لا يقلّ عبثا عن سابقه، تناقلته عدة تلفزيونات عربية وعالمية، هو مشهد سفر إبراهيم غالي، رئيس جبهة «البوليساريو» الانفصالية إلى إسبانيا، للعلاج من الإصابة بـ«كورونا». وعوض أن يخلد للراحة التي كان يحلم بها، وجد نفسه وسط زوبعة سياسية وإعلامية وحقوقية كبرى؛ بعد دخوله إلى الأراضي الإسبانية بجواز سفر جزائري مزور وبلقب مستعار هو «ابن بطوش».
العالم عرف من قبل شخصيات جزائرية كابن باديس وابن بلة وابن جديد وابن الشيخ وغيرهم. ولكن «ابن بطوش» لقب من اختراع العسكر نفسه الذي اخترع سابقًا دويلة وهمية على أرض جزائرية، سمّاها «الجمهورية العربية الصحراوية» وجعل لها «مدنا» من خيام، بأسماء المدن العملاقة الموجودة في الصحراء المغربية. (إنهم يسرقون حتى أسماء المدن المغربية) ! وأما الزوبعة الثانية فهي مظاهرات الناشطين الذين اعتصموا أمام مقر استشفاء «ابن بطوش» في إسبانيا، مطالبين بمحاكمته على ما نسب له من جرائم مختلفة. وبعد جلسة الاستماع إليه «عن بعد» من طرف القاضي، لم يجد النظام الجزائري بُدًّا من ترتيب عودته السريعة ـ متخفيًّا كما ذهب ـ إلى بلد المليون شهيد، حيث أودع أحد المستشفيات لمواصلة العلاج.
ومن جديد، حاول «قصر المرادية» أن يظهر أنه لا يتخلى عن «ابن بطوش» فحرص من خلال قنواته التلفزيونية الرسمية أن يصور زيارة الرئيس تبون له، بمعينة القيادة العسكرية، كنوع من الدعم المعنوي والمساندة القوية. ولم يكن خافيا على الذين استمعوا إلى الكلمات التي تفوه بها «ابن بطوش» أمام زواره، أن يلتقطوا امتنانه لأولياء نعمته الذين منحوه جواز سفر دبلوماسي، ولقبا جديدا، وحماية العسكرية، ودويلة في مخيمات «لحمادة». ولم يفعلوا ذلك لسواد عيونه، وإنما كُرهًا في جارٍ يناصبونه العداء اسمه المغرب!

ذات صلة