الطاهر الطويل
صار من الشائع ألا يتحكم الخطاب السياسي إلى منطق الواقع وتجليات السلوك وقياس الأفعال على الأقوال.
يتأسس الخطاب السياسي العربي على قاموس مغلّف بلغة الوعي والتبشير الإيديولوجي من جهة، وبمفردات السخط على مظاهر الانحراف الاجتماعي والسياسي والإداري من جهة ثانية. أما منهج هذا الخطاب فيضرب على أوتار العاطفة والأماني المكبوتة، من أجل تحقيق الهدف المنشود: إقناع المتلقي / الآخر بصحة الأطروحة والشعارات المرفوعة.
ومن البداهة القول إن الهدف بحد ذاته هو مجرد محطة مرحلية، للوصول إلى هدف أكبر: انقياد المتلقي للمخاطب السياسي وإعجابه به واتخاذه قدوة أو رمزا جدير بالاحتذاء، فيغدو المتلقي بالتالي مرددا لأطروحة “هذا الرمز”، مستعدا للدفاع عنها بكل الوسائل، كما لو أنها أطروحته الخاصة ومن بنات أفكاره.
تتحكم في الخطاب السياسي العربي عموما عقلية انتخابية محضة، لا يتخلى عنها، حتى وان كان الزمن غير زمن الانتخابات. ومعروف عن هذا الزمن أنه لا مكان فيه للأفعال والمنجزات، بل إنه فضاء للمتاجرة بالكلام وبالأماني.. بامتياز. ويكون أحيانا مناسبة لبيع بالونات الوهم وتوزيع تذاكر الحلم.
وبما أن زمن الانتخابات مرحلي وعابر وموسمي، فإن الخطاب السياسي سرعان ما يجد نفسه مدعوا للبرهنة على مصداقيته وإمكان ترجمته عمليا وميدانيا. ولكنه ينقلب بشكل فجائي، ويتزين بتلوينات جديدة تحت يافطة “التكيّف مع الظروف”، ويتحول إلى ترديد أسطوانة “الصعوبات” و”عامل الوقت” و”اللوبيات” و”خصوم الديمقراطية” وهلم جرا.
وهكذا تصير “الفردوس” أو “الإلدورادو” (المدينة المثالية) التي تبشر بها “دونكيشوتات” السياسة، مجرد سراب يتراءى للظمآن فيحسبه ماء.
أخطر ما يهدد الخطاب السياسي هو فقدان الثقة. وبقدر ما يظهر أنه متماسك ومتين، بقدر ما يمسي أحيانا كثيرة أوهن من بيت العنكبوت، خاصة حين ينتفي مبدأ المطابقة بين القول والفعل، بين الخطاب والممارسة، بين النظرية والتطبيق، وحينئذ، تصبح كل الاحتمالات ممكنة.
هناك صنف من ممتهني السياسة يبالغ في الشعبية، ويجعلها مذهبا واتجاها من أجل لفت الانتباه لنفسه. إنه يوزع التحايا ذات اليمين وذات الشمال دون سبب، وربما حتى دون وجود من توجه إليهما لتحية، ويتحدث إلى رفاقه المحيطين به بصوت مرتفع. والحال أنه مدعو إلى أن يعطي المثال والقدوة بسلوكه وعلاقاته العامة. صحيح أن الإنسان لا يسلم من النواقص والأخطاء، ولكن ما يُعاب عليه منها هي تلك التي يسعى بنفسه إليها.
المطلوب من السياسي الحقيقي أن يحافظ على تلك الصورة الجميلة (وربما المثالية) التي يكونها الناس ويحملونها عنه. فكم هو سيء وفظيع أن يقع في التناقض بين ما يردده لسانه وخطابه من مبادئ رفيعة وقيم سامية وبين سلوكه اليومي وما يصدر عنه من أفعال ذميمة تتنافى مع روح المواطنة الصادقة!