الابتلاء أشكال وأنواع. منه ما يُحتمل، ومنه ما لا طاقة للمرء به. ولكن شرّ البلاء هو ما ابتُلي به المغاربة، هذه الأيام، بوجود مَن يُطلق عليهم «المحللون السياسيون» الذين يشغلون شاشات التلفزيون الرسمي، حيث يُنادَى عليهم لملء الفراغ بكلام في السياسة وفي غير السياسة. والواقع أن مهمتهم الأساسية الموكولة إليهم هي تلميع الصورة الرسمية.
على أنه ليس من اختصاص «محللي آخر زمان» تمجيد الحكومة، فقد رأينا كيف ينهالون عليها بوابل من الذم والتنقيص (خصوصا في عهد رئيسها السابق)، ولكن دورهم ينحصر في محاولة التأثير على الرأي العام الداخلي بكلام مُوحَى إليهم من لدن مَن فرضوهم فرضا على إدارات القنوات الرسمية.
وهم يجهلون أو يتجاهلون أن الناس ما عادت تصدّق كلام التلفزيونات الرسمية الخاضعة لسلطة أعلى تتجاوز سلطة الحكومة. (وقد رأينا كيف أن عبد الإله بن كيران، رئيس الحكومة السابق، يشكو من «حيف» بعض القائمين على التلفزيون الرسمي و»تجنيهم» عليه). فلشبكات التواصل الاجتماعي وللمواقع الإلكترونية، اليوم، تأثير أقوى في المواطنين، وقدرة على انتشار الخبر والمعلومة والصورة الفوتوغرافية والفيديو بشكل أسرع، دون التحري المطلوب في مدى صدق المحتوى أو كذبه.
يُضاف إلى ذلك أنه بخلاف الإعلام الإلكتروني الذي يعتمد التبسيط والسهولة ولغة قريبة من المواطن العادي، فإن أولئك المحللين يستعملون تعبيرات وألفاظا يحاولون بها «التعالُم» و»الاستعراض»، مُعتقدين أنهم يحسنون صنعا، ولكن ذلك يزيد من نفور الناس منهم ومن صورهم التي باتت تسكن الشاشات.
ومن عجائب «محللي آخر زمان» أن لهم قدرة رهيبة على الكلام في أي شيء يُعرض عليهم أو يُستدعَون للخوض فيه، من التحالفات الحزبية والسيناريوات السياسية المحلية والإقليمية والعربية والدولية، إلى القضايا الأمنية والإستراتيجية والاقتصادية، وصولا إلى قضايا الأبحاث الفضائية والأقمار الصناعية… فهذا يدلي بدلوه (الفارغ أصلا) في موضوع كوريا الشمالية وصراع القوى العظمى والتهديد النووي؛ وذاك يحشر أنفه في الشأن الجزائري ليتحدث عن «الصراعات» الموجودة هناك بين التيارات المختلفة، من باب الغمز واللمز؛ وثالث يتجرأ أكثر ليستعرض معلومات جمعها من هنا وهناك من أجل الحديث عن المراحل التي قطعها القمر الصناعي المغربي، قبل أن يكون جاهزا، وخصوصية القاعدة التي انطلق منها قبل بضعة أسابيع، وسرعة الصاروخ الحامل للقمر المذكور؛ مردّدا بزهو: «لقد صارت لنا عين في الفضاء»! علما بأن تكلفة تلك «العين» بلغت زهاء نصف مليار يورو، وذلك في إطار صفقة بين المغرب وفرنسا.
وبقي أولئك المحللون عالقين في الفضاء، منتشين بالقمر الصناعي المغربي الذي سيقوم بمهام المراقبة والاستطلاع، ولم ينزلوا إلى الأرض، ولم يروا بأمّ أعينهم، ولا أخبرتهم حتى «عينهم» المزروعة في الفضاء بوجود تجمهر غفير للنساء في منطقة قريبة من الصويرة، يتزاحمون ـ منذ أيام قلائل ـ من أجل الظفر بكيس دقيق ومساعدات غذائية لا تتعدى قيمتها حوالي 15 يورو للمرأة الواحدة.
وظل «محللو آخر زمان» وكأن على رؤوسهم الطير وكأنهم أصيبوا بالخرس، إذ اختفوا من على الشاشات، وتأكد بالملموس أن وفاة 15 امرأة في حادث تدافع من أجل الظفر بقوت عيش ظرفي ومؤقت، دليل على إفلاس الخطاب الذي يسعون لتروجيه عبر التلفزيون، خطاب تنميق صورة المغرب في الداخل والخارج، وتمجيد السياسة المتبعة التي ثبت فشلها بالملموس، لكونها تكرّس الثراء الفاحش لفائدة قلّة ممن يستحوذون على ثروات البلاد، وفي المقابل تُعمِّق الفقر المدقع لدى فئات عريضة من المواطنين، ممّن يجود عليهم البعض بصدقات لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تقي من قسوة برد جاثم!
نمطية واجترار
مشكلة بعض الكوميديين المغاربة أنهم يحصرون أنفسهم في قوالب جاهزة وشخصيات نمطية، لا يخرجون منها أبدا، معتقدين أنها تستهوي الجمهور في المسلسلات والأفلام التلفزيونية والسينمائية وفي الفقرات الساخرة.
وهم ينسون أو يتناسون أن الجمهور إذا قبلك في دور معين، فلا معنى لبقائك مسجونا فيه، بل لا بد من التنويع في أداء الشخصيات المختلفة، لإبراز مهاراتك التمثيلية. ومن ثم، فلا معنى لأن نجد ممثلين مغاربة ما زالوا يجترون شخصية البدوي أو شخصية البليد، ويعتبرونها علامة مميزة لأسلوبهم في التشخيص. كان ذلك مقبولا في السبعينيات والثمانينيات ـ مثلا ـ خلال العقود الأولى من احتكاك الفنانين المغاربة بالدراما الإذاعية والتلفزيونية، وكان مقبولا أيضا إلى حد ما حين كانت ثمة قناة تلفزيونية واحدة، يضحك فيها المغاربة لعفوية الكوميدي عبد الرؤوف وبساطته في الأداء ولمستملحاته الطريفة.
ولكن الأمر لم يعد مقبولا، نظرا لتعدد الفضاء التلفزيوني وكثرة القنوات الملتقطة وانفتاح المشاهد المغربي على مختلف الأعمال الفنية العربية والعالمية، مما يتيح إمكان المقارنة والاختيار. كما أن وجود معهد عال للفن المسرحي والتنشيط الثقافي يوفر تخرّج ممثلين ذوي تكوين أكاديمي عال.
وفي المقابل، انتشرت صناعة الفيديوهات بأبسط الوسائل وذيوعها عبر وسائط الاتصال المعاصرة، حيث غدونا أمام «نجوم» لهم طريقتهم الخاصة في جلب نقرات الإعجاب من لدن مستعملي الإنترنت.
أمام هذا الواقع الجديد الذي يطرح منافسة شرسة في الميدان الفني، لا معنى لأنْ يجتر بعض الفنانين شخصيات البدوي والبليد، ويكرروها كلما شاركوا في عمل فني جديد أو استضافهم برنامج تلفزيوني حواري معين، فالمسألة قد تقود إلى الممل، والممل عدو الإبداع وعدو المشاهدة التلفزيونية، وهو ما قد يؤدي إلى خفوت نجومية الفنان وربما اندثارها إلى الأبد.
(نشر بتاريخ 24 نوفمبر 2017)