في أوقات عديدة، يلجأ التلفزيون المغربي إلى الاستعانة بشخصيات معنوية (شركات) أو شخصيات حقيقية، من أجل إنتاج برامج معينة، دون أن تكون ثمة حاجة فعلية إلى مثل هذه الخطوة، ذلك أن تلك البرامج يمكن أن تنجز اعتمادا على الكفاءات الداخلية للمؤسسة نفسها، فتُعطي نتائج طيبة وفق مواصفات الجودة المطلوبة.
أكثر من ذلك، أننا وجدنا برامج أنجزها «أبناء وبنات الدار»، قد توفقت على أخرى أنجزتها أو نفذت إنجازها شركات أو أفراد من خارج المؤسسة. مما يُطرح معه سؤال عريض حول ما يسمى في المغرب «الحكامة» المرادفة لـ»الحكم الرشيد» في القاموس المشرقي، والتي تتعلق بالتدبير المطلوب للمؤسسة والتوظيف الأمثل لكفاءاتها الإعلامية وإمكانياتها التقنية، دون الحاجة إلى استنزاف مواردها المالية وتوزيعها بسخاء على شركات إنتاج تلفزيوني بعينها أو على أفراد يدّعون الاختصاص والأهلية الفنية.
الأسبوع الماضي، وقف المشاهدون على مثال حي لهذه المفارقة، من خلال برنامجين أحدهما إنتاج داخلي صرف، ينتمي إلى مؤسسة التلفزيون المغربي مائة بالمائة فكرةً وإعدادًا وإنجازًا، والثاني يقوم على فكرة ورؤية وتنفيذ للإنتاج من طرف مخرج سينمائي جرى التعاقد معه لهذا الغرض.
البرنامج الأول يحمل عنوان «علامات وظلال»، وهو من إعداد الإعلامية المقتدرة خديجة رشوق، وإخراج المخرج المبدع عبد الرزاق الحرش. وقد انصبت حلقة الأسبوع الماضي التي أعيد بثها على موضوع مدينة جرادة (الواقعة في الحدود المتاخمة للجزائر) وحكايتها مع الفحم الحجري الذي توقف إنتاجه بهذه المدينة منذ 16 سنة، مخلفا حالات مرضية عديدة لدى عمال المناجم.
أنجز هذا البرنامج بمهنية عالية، واستطاع إبراز العمق الإنساني للحالات التي استجوبها، بشكل لا يمكن إلا أن يترك أثرا نفسيا قويا لدى المشاهد الذي لا شك أنه تابعه حتى النهاية، إنْ من حيث الصورة المعبرة، أو من حيث التصريحات الملتقطة، أو من حيث أبعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
ومن سوء حظ المخرج السينمائي حكيم بلعباس أن سلسلته الوثائقية المعنونة بـ «وجوه» قُدّمتْ مباشرة بعد برنامج «علامات وظلال»، فكان الفرق بين هذا وذاك كبُعد السماء عن الأرض.
يُعرَّف البرنامج المذكور بكونه «صورا لمغاربة عاديين جدا». فالأمر، إذنْ، يتعلق بجنس البورتريه التلفزيوني، مما يحيل ـ مثلا ـ على برنامج «كلنا أبطال» الذي تبثه القناة الثانية المغربية. بيد أن «وجوه» حكيم بلعباس اعتراها ضعف شديد، من حيث الإعداد والإخراج والمونتاج وهلم جرا. ومما يمكن أن يُستدلّ به على الضعف: عدم تنويع اللقطات أثناء التصوير والمونتاج، حيث اقتصر المخرج غالبا على اللقطات الشاملة (أو الطويلة) التي تُركت لدقائق عديدة، بشكل جامد وممل، وتكررت هذه العملية في البرنامج أكثر من مرة. والواقع أن هذا الصنيع يعود بالمُشاهد إلى أكثر من قرن، حيث يذكّر بالبدايات الأولى للتوثيق المرئي مع الأخوين «لوميير»، اللذين يعتبرهما الكثير من النقاد والمؤرخين المخترعين الحقيقيين للسينما.
أما الوجه الثاني لضعف مستوى السلسلة الوثائقية «وجوه»، فهو أنه أثناء الحلقات كان ثمة صوت خافت يطرح أسئلة على الأشخاص المُصَوَّرين، ولم يكن ذلك الصوت ـ الذي يُرجَّح أن صاحبه هو المخرج نفسه حكيم بلعباس ـ يصل إلى الآذان بمستوى واضح وبصفاء تقني معقول، وذلك لغياب ميكروفون لدى طارح الأسئلة.
ومن ثم، يجوز القول إننا بإزاء سلسلة «وجوه» ـ على نبل فكرتها ـ أمام عمل هاوِ يفتقر إلى شروط الصناعة التلفزيونية الجيدة. وهو مجرد مثال لبرامج أخرى يتم تمريرها للمشاهد، وتستنزف أموالا طائلة، يستفيد منها «المنتجون الخارجيون» فقط (أي غير المنتمين لمؤسسة التلفزيون)، في حين تكون النتيجة كارثية بجميع المقاييس. فمتى يعاد الاعتبار لإعلاميي التلفزيون المغربي؟
لحلو في مواجهة مرميد
يحرص صاحب برنامج «FBM» الذي يبث أسبوعيا على قناة «ميدي1 تي في» على ارتداء قبعة وهو يحاور ضيوفه. ويستحق أن نرفع له بدورنا القبعات تقديرا على تفوقه في إدارة الحوار وإعداده واستدراج الضيوف إلى ما يشبه البوح والمكاشفة.
«FBM» تعني «في مواجهة بلال مرميد»، ومعد ومقدم البرنامج إعلامي وناقد سينمائي. ومن هذا الموقع، استضاف أخيرا المخرج والممثل المثير للجدل نبيل لحلو الذي يصف نفسه بأنه «متمرد ظل الظلم». وكعادة هذا الأخير، فقد كان صريحا وجريئا، إذ وجه انتقاده إلى واقع السينما المغربية، فهناك سنويا ـ كما يقول ـ أكثر من 38 مهرجانا سينمائيا، تتكرر فيها نفس الوجوه. وهناك أيضا (والعهدة عليه دائما) تلاعبات في ما يخص إنتاج الأفلام، فالمنتجون حسب وصفه مجرد سماسرة لا يهمهم سوى ما يكسبونه من ميزانيات الأعمال السينمائية لتحقيق أغراضهم الذاتية. طبعا، لا يمكن لأي إعلامي مهني أن يترك هذا الكلام الذي يتضمن اتهامات خطيرة أن يمر على الهواء دون استدراك وتوضيح. ولذلك، طلب بلال مرميد من نبيل لحلو ألا يعمم وألا يجرّم الجميع.
(نشر بتاريخ 7 ديسمبر 2017)