الطاهر الطويل
هي كلمة واحدة فقط، جرّت على صاحبها الويلات، كلمة خفيفة على اللسان، ثقيلة في ميزان سيئات الحكومة العثمانية بالمغرب، ونسبة العثمانية ترجع إلى رئيسها سعد الدين العثماني، الجانح دائماً إلى لجم لسانه، على عكس خلفه عبد الإله بن كيران، لأن «اللسان ما فيه عظم» كما يقول المثل العامّي. لكن العثماني، وهو الطبيب النفسي، نسي أو تناسى أن يلقّن هذه الحكمة «الذهبية» لتلاميذه في «مدرسة المشاغبين» مثلما تصفهم السلسلة الكرتونية المغربية على قناة «يوتيوب».
أحد هؤلاء المشاغبين وزير الاقتصاد والمالية، محمد بوسعيد، يرطن بكلمات ربما لا يفهم معناها ودلالتها البعيدة والخطيرة، شأنه في ذلك شأن جل المسؤولين «الفرنكفونيين» الذين يجدون الطريق نحو المناصب مُعبّداً ومفروشاً بالورود. هذا الوزير لم يرقه أن يقوم فتية مناضلون بتزعم حملة لمقاطعة بعض المنتجات الاستهلاكية احتجاجاً على غلائها، فأخذته الحميّة على زملائه المتحكمين في الأعناق والأرزاق، ووصف المقاطعين بـ «المداويخ».
كلمة نقلتها القناة التلفزيونية الأولى خلال بثها المباشر لجلسات البرلمان المغربي، عشية الثلاثاء المنصرم. لكنها لم تمر مرور الكرام، إذ سرعان ما انتقلت إلى شبكات التواصل الاجتماعي، مصحوبة بتعليقات مختلفة، وأسهب مدوّنون في تحليل صفة «الدوخة» التي ألصقها الوزير المذكور بفئة من الشعب المغربي، مُجمعين على كونها تتضمن دلالات التسفيه والتحقير.
أمام هذه النازلة، لا بدّ مما ليس منه بد: تقديم الوزير المذكور اعتذاراً علنياً للشعب المغربي كافة، إذ يُفترض أن تكون الحكومة حكومة لجميع المواطنين، دافعي الضرائب، مؤيدين ومعارضين، وليس حكومة للمصفقين فقط. وفي حالة الرفض، لا مناص من إقالة الوزير بوسعيد، ما دام قد أهان فئة من المغاربة وشتمهم على الهواء، «لأنه لا يجدر بجنابه وجناب حزبه أن يحكموا أمّة من المداويخ»، على حد تعبير زميلنا الكاتب والإعلامي شكري البكري.
أضف إلى ذلك، أنه من المفروض في «الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري» التي تراقب عمل القنوات التلفزيونية المغربية أن تلزم القناة الأولى بإعطاء الكلمة لأحد متزعمي حملة المقاطعة للرد على «معالي الوزير» وحفظ ماء الوجه.
ولكن أيّاً من هذه الخطوات لن يحصل أبداً، ما دام سبُّ الحاكمين الشعبَ أسلوباً معهوداً في جل أنظمتنا العربية، لقد فعلها الرئيس اليمني الراحل علي عبد الله صالح، حينما نعت معارضيه بـ»أصوات نشاز غير مقبولة» وصرخ في وجههم عبر التلفزيون: «فاتكم القطار، فاتكم القطار»، وفعلها أيضاً الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي صاحب عبارة «الجرذان» و«زنقة زنقة»، وفعلها أيضاً الانقلابي عبد الفتاح السيسي الذي واجه مواطناً مصرياً أراد أن يلعب دور ممثل صوت الكادحين، فطالب بإعادة الدعم، مشيراً إلى أن الفئات محدودة الدخل لكونها لا تستطيع تحمل الزيادات في الكهرباء والوقود، فقمعه السيسي قائلاً: «إنت مين»؟ على غرار العبارة الشهيرة «مَن أنتم؟»… وقبلهم بسنوات عديدة، نعت العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني معارضيه بـ»الأوباش»، خلال التظاهرات التي شهدتها مجموعة من مدن المملكة آنذاك.
مهما اختلفت الصيغ وتعددت التعبيرات، يظل القاموس واحداً، وتظل شاشات التلفزيون شاهدة على تلك النظرة الدونية للمعارضين، وهي نظرة يزكيها تحالف المال مع السياسة، أي ما يُطلق عليه في المغرب «المخزن»، فالطبقة الأرستقراطية تتقوى من خلال تلاقي المصالح بين رجال المال ورجال السياسة. ومن ثم، لا نستغرب إن وجدنا رجل اقتصاد مغربياً يسعى إلى تطبيق مقولة «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً» حسب فهمه الخاص. فبعدما وصف وزير المالية محمد بوسعيد مقاطعي المنتجات الاستهلاكية بـ»المداويخ»، اختار لهم مدير في شركة للحليب وصف «خونة الوطن»، وذلك في تصريح نُقل صوتاً وصورة عبر المواقع الإلكترونية منذ يومين. وهكذا صارت مقاطعة منتج معين من الحليب خيانة للوطن، في عُرف المنتفعين من الاقتصاد المغربي ومن عرق الفلاحين البسطاء ومربي المواشي!
إذا كانت المطالبة السلمية المشروعة بخفض الأسعار تجعل المواطن خائناً، فأنعم بها من خيانة، وهات حكمك ـ أيها المسوؤل ـ إن كان الأمر بيديك!
ماء وحليب وبنزين!
التحالف بين سلطتي المال والسياسة في المغرب يمثلّه المتحكم في إحدى أكبر شركات البنزين، التي يدور حولها ـ هذه الأيام ـ موضوع المقاطعة الشعبية، لعدم مراعاة تلك الشركة القدرة الشرائية للمواطنين (شأنها في ذلك شأن شركات الحليب والماء المعدني)، وأيضاً لعدم التفاعل الإيجابي والمنطقي مع تقلبات أسعار النفط عالمياً.
الشخص المذكور الذي يجمع بين الحقيبة الوزارية باعتباره مسؤولاً عن الفلاحة والصيد البحري والمياه والتنمية القروية وبين المسؤولية الاقتصادية باعتباره على رأس شركة للمحروقات، صار دائم الحضور في الإعلام السمعي البصري، فلا تكاد تخلو نشرة إخبارية من صوره وتصريحاته، وهو ما يزكي وضعيته الاستثنائية في المشهد السياسي المغربي، لدرجة أنه قام ببعثرة الأوراق خلال المفاوضات التي أُجريت منذ أكثر من سنة من أجل تشكيل الحكومة، وفرض توجهات واختيارات معينة.
وتسابقت الكاميرات منذ يومين، لتصويره، خلال معرض الفلاحة بمدينة مكناس، وهو يشرب الحليب نكاية في المقاطعين، ويصف عملية المقاطعة باللعب، حيث قال: «هذا قوت الفلاحين، ومن يريد اللعب فليذهب إلى مكان آخر».
ولا أجد رداً أجمل وأبلغ على معارضي حملة المقاطعة من تدوينة كتبها الشاعر المغربي نوفل السعيدي، وبها أختتم هذا العمود: «سيقول لكَ المخلفّون من الأعراب: بمقاطعتنا لهذه المنتجات، فنحن نضرّ بأرباح هذه الشركات، ونقطع معها أرزاق العاملين بها. التغيير يحتاج للتضحية. كيف تريدون هذا التغيير يا عباد الله، لا أنتم تحتجون ولا تتظاهرون ولا تخرجون للشوارع ولا تقاطعون الانتخابات، ولا.. ولا.. كيف؟! تُريدون عصا النبي موسى تجعل المغرب السويد في طرفة عين؟! لقد انتهى زمن المعجزات، والتغيير لا يكون إلا بالتضحية، فالنبي محمد الملهَم من السماء، لم يُغيّر الأوضاع حتى جاع وهُجّر من مكة وانتُهِبَت أملاكه وأملاك المهاجرين، وكان بإمكان ربّه أن يفتح له نهراً من السماء يتلألأ ذهباً وفضة، حتى تكون لنا عبرۃ. إنها سُنّة التدافع والأخذ بالأسباب».
(نشر بتاريخ: 27 أبريل 2018)